الرواية والتاريخ
طرح بعض النقاد منذ عدة سنوات مقولة «زمن الرواية» للدلالة على أننا نعيش بحق «عصر الرواية» فى مقابل تراجع مكانة الشعر، الذى عُرِف قديمًا بأنه ديوان العرب.
واليوم يلاحظ الكثير من النقاد غزارة الإنتاج فيما بات يعرف بـ«الرواية التاريخية»، ويمكن رد ذلك ببساطة إلى أن الأمم تراجع تاريخها مع اللحظات الصعبة، وعند مرحلة مفترق الطرق، وهى الحالة التى تمر بها شعوبنا العربية فى العقدين الأخيرين، وتقدم الرواية فضاءً أرحب بكثير من جمود الدراسات التاريخية.. ربما نستطيع تقبُل الرأى السابق بسهولة، لكن الأمر أكثر تعقيدًا من ذلك، من هنا نشهد أيضًا العديد من الدراسات النقدية حول ما يعرف بالرواية التاريخية.
من هذه الدراسات الجادة، دراسة الدكتور عادل ضرغام «الرواية والتاريخ.. من التاريخ إلى الهوية».
وبالقطع من الصعب الإحاطة بكل الإشكاليات التى تطرحها الدراسة فى مقال قصير مثل مقالنا، لكننا سنحاول هنا التركيز على ما نعتقد أنه بمثابة الإشكالية الكبرى التى يطرحها الكتاب، والتى تخص فى حقيقة الأمر واقع ما يسمى الرواية التاريخية فى الفترة الأخيرة فى عالمنا العربى، ونقصد بذلك مسألة الرواية التاريخية الجديدة: من التاريخ إلى الهوية.
بدايةً تتراجع، وربما تتداعى، التعريفات الكلاسيكية حول ما هى الرواية، وحتى تعريف «الرواية التاريخية» إذا نظرنا إليها من منظور ما بعد الحداثة، وربما يُصدَم البعض إذا طُرِح التساؤل: هل هناك أصلًا «رواية تاريخية؟»، وأيضًا: أليست كل رواية بمعنى ما «تاريخًا»؟
ويبدأ عادل ضرغام دراسته متسلحًا بكل أدوات الناقد، لكننا نكتشف أيضًا أنه على دراية واسعة بتغير مفهوم التاريخ فى عالم ما بعد الحداثة.. من هنا يبدأ برصد حال ما عرف بالرواية التاريخية ونشأتها فى زمن «الحداثة»: «النظرة إلى التاريخ- فى إطار الروايات التاريخية الكلاسيكية- نظرة إجلال وتقديس، بوصفه خطابًا تم الاتفاق على حقيقته، وقيمة هذه الحقيقة، بالإضافة إلى أن التوجه إليها كان مرتبطًا بنشأة القوميات».
ويضرب المؤلف مثلًا بروايات والتر سكوت وأتباعه، التى شكّلت فى الحقيقة الارتباط الكبير بالقوميات وبالأيديولوجيات السياسية، التى كانت أساس كتابة التاريخ طيلة القرن التاسع عشر.
لكن مفهوم التاريخ سيتغير فى عالم ما بعد الحداثة، إذ أصبح السؤال: عن أى تاريخ نتحدث؟ فلم يعد لدينا إذن خطاب واحد للحقيقة، وبالقطع سينعكس ذلك تمامًا على عالم رواية ما بعد الحداثة، خاصةً ما يسمى الرواية التاريخية؛ إذ لم يعد الهدف من كتابة «رواية تاريخية» هو تدوين التاريخ روائيًا، وإنما «أنسنة» هذا التاريخ الذى تم تقديسه فى عصر الحداثة والقوميات.
يلخص ضرغام هذه الإشكالية المهمة قائلًا: «لا يعود الروائى للتاريخ من أجل العودة إلى الماضى، وليس بالطريقة التقليدية، وإنما من أجل مساءلة فرضية آنية يحاول التأكد من تجذرها فى سياقه العام القديم.. وهو فى ذلك لا يستطيع أن ينفصل عن سياقه الآنى الذى يحيا فيه، والمشدود حتمًا إلى ماضيه».
وربما تُلخص مقولة «هتشون» جزءًا كبيرًا من هذه الإشكالية: «الرواية التاريخية ليست مرآة الحقيقة، وليست إعادة بناء لها، إنها لا تقوم بذلك، هى تقدم خطابات أخرى من خلالها نستطيع أن نبنى صورًا أخرى لهذه الحقيقة».