الطائفية وتوظيف التاريخ «٢- ٢»
رأينا فى المقال السابق كيف أثار كتاب جاك تاجر «أقباط ومسلمون» منذ صدوره ضجة هائلة ذات طابع دينى بالأساس، ولم يهتم هؤلاء بالرؤية التاريخية المختلفة التى يقدمها.
والغريب أن هذه الضجة مستمرة حتى الآن، ويصاحبها الطابع الدينى، دون التفات يذكر للمسألة التاريخية فى الكتاب، فعند تصفحى المواقع الإلكترونية التى اهتمت بهذا الكتاب، راعنى هذه الحرب الطائفية بين المواقع «الإسلامية» و«القبطية» حول توظيف الكتاب واستخدامه لخدمة أغراض طائفية بحتة!
فعلى الرغم من اعتراض الإخوان المسلمين على الكتاب عند صدوره- كما مر بنا- نجد الآن أحد المواقع «الإسلامية» يحتفى بالكتاب احتفاءً خاصًا؛ إذ يقتطع الموقع بعض الفقرات من الكتاب ليوظفها توظيفًا طائفيًا. فردًا على مقولات بعض مواقع أقباط المهجر حول إكراه مصر والمصريين على الدخول فى الإسلام بعد «الغزو» أو «الفتح» العربى، يستخدم هذا الموقع «الإسلامى» كتاب «جاك تاجر» ليبرهن على إكراه مصر والمصريين على الدخول إلى المسيحية، وإجبارهم على التخلى عن معتقداتهم القديمة منذ العصر الفرعونى، وهذا يفسر لنا أن يقوم موقع إسلامى بتحميل كتاب «جاك تاجر» وتقديمه لزواره، وتصنيفه للكتاب ضمن «التاريخ الإسلامى- الإسلام والمسيحية».
وعلى الجانب الآخر استخدمت بعض مواقع أقباط المهجر كتاب «جاك تاجر» بنفس المفهوم «الطائفى»؛ إذ قام أشهر هذه المواقع بتحميل الكتاب وتقديمه لزواره تحت عنوان «هدية أعياد القيامة المجيدة من أقباط متحدين نظرًا للإقبال الهائل على كتاب المؤرخ جاك تاجر»، وقام موقع قبطى آخر بتحميل الكتاب مع تقديم عرض له، ثم تذكيرًا بقصة هجوم الشيخ الغزالى على الكتاب، هكذا لا يرى هذا الموقع فى كتاب «جاك تاجر» إلا أنه كتاب يرى أنه «كيف يكون هناك تسامح إسلامى للأقباط مع وجود سجل تاريخى لا نهاية له من الاضطهاد والقتل والتشريد؟»، وهو فى الحقيقة ما لم يقله «جاك تاجر» على الإطلاق.
هنا نصل إلى لُب القضية: الانتقائية فى التعامل مع التاريخ، ثم توظيف التاريخ لخدمة أغراض طائفية، وربما هذا يفسر سر هذه «الحرب الإلكترونية» على كتاب «جاك تاجر».
فى الحقيقة كتاب «جاك تاجر» من الكتب التاريخية المهمة فى هذا الشأن، مع التذكير بأن للرجل كتابات تاريخية أخرى فى موضوعات التعليم وحركة الترجمة فى مصر.
والكتاب يتعامل مع قضايا شائكة بالغة التعقيد تتعلق بتاريخ العلاقات المسيحية الإسلامية، كما يعالج المؤلف فترة تمتد لعدة قرون، توالى على مصر فيها حكام وأحداث مختلفة، وطيلة هذه الفترة لم تكن هناك سياسات واحدة ثابتة، أو مواقف متجمدة، وإنما تغيرات سريعة ومتلاحقة.
والأزمة تأتى عندما يقرأ أحدهم كتابًا مثل كتاب «جاك تاجر»، ويطرح على نفسه هذا السؤال الهلامى والأجوف: هل الكاتب متعاطف مع الأقباط، أم مع المسلمين؟!
إننا فى الحقيقة نقرأ التاريخ بطريقة انتقائية وعاطفية، ونتصور أن تاريخنا أبيض أو أسود، مع أن التاريخ لا لون له. ونُصر أحيانًا على أن تاريخنا «نظيف» مثل مصطلح السينما «النظيفة»، وهى نظرة «مثالية غيبية» تحرمنا من فكرة «مراجعة» تاريخنا، وإعادة قراءته ونقده، وتجاوزه إلى فهم الحاضر، ورسم سيناريوهات المستقبل.