«الديستوبيا الروائية».. كتابٌ يبحث في سمات «المدينة الفاسدة»
في الآونة الأخيرة، لا سيّما في العقدين الأخيرين، شاعت رواية الديستوبيا عربيًا بعد أحداث عاصفة شهدتها الدول العربية ومتغيرات عالمية أثّرت بضراوة على الواقع العربي، فشرع الروائيون العرب في رسم ملامح مدينة فاسدة مستقبلية يسودها الظلم والفساد والظلام وتخبو فيها الآمال والمطامح في مستقبل مشرق، متكئين على إرث روائي وفلسفي عنيت به المجتمعات الغربية في القرن العشرين.
يرصد الباحث المصري نجدي عبد الستار في كتابه "الديستوبيا الروائية.. المفهوم، الأنواع، الوظائف"، الصادر مطلع هذا العام عن دار "النابغة" للنشر والتوزيع، سمات الديستوبيا في عدد من الروايات العربية هي "السيد من حقل السبانخ" لصبري موسى، و"يوتوبيا" لأحمد خالد توفيق، و"عطارد" لمحمد ربيع، و"فئران أمي حصة" لسعود السنعوسي، انطلاقًا من تحليل البنية الروائية في الأعمال موضع الدراسة.
حضور راهن
يشرع الباحث في تبيان جذور الديستوبيا التي كانت استجابة للسياق التاريخي في الحاضر والماضي رغم أن أحداثها تدور في المستقبل، مشيرًا إلى أن مصطلح الديستوبيا قديم ولم يكن الأدب وحده هو الذي أوجده وإنما تبين المصادر الفلسفية تردد أصداء الديستوبيا في فلسفة فريدريك نيتشه العدمية، وفي أيدولوجيات الفيلسوف الأمريكي ريتشارد رورتي، وكذلك في مفهوم الواقع الشبيه عند الفيلسوف الفرنسي جان بودريار.
تجسّدت المدينة الفاسدة في عدد من الأعمال الروائية الغربية وكان حضورها لافتًا في القرن العشرين، إلا أنها وجدت بيئة خصبة لها في العالم العربي أخيرًا من خلال أعمال روائية أزعجها الواقع وسيطر عليها التشاؤم الذي يصفه الباحث بكونه دفاعيًا يحذر من القادم الذي قد يصير أسوأ من الراهن. ومن هذا المنظور فالديستوبيا قد تكون صورًا من المستقبل تشير بخوف إلى الشكل الذي قد يصير إليه العالم، ومن هذا المنظور فهي صيحة إنذار وتحذير أو على الأقل سخرية من الواقع المعيش.
أنواع الديستوبيا
يُقسّم الكاتب الأعمال الروائية الديستوبية إلى أربعة أقسام يرى أنها شاملة لمختلف الأعمال العربية في هذا المضمار؛ فهناك ديستوبيا الهوية الدينية التي تبحث عن سبب فقد الإنسان لهويته وعدم ارتباطه بالمكان ما يجعله منعزلا وخائفا، وفيها يرصد الروائي أثر الخلافات المذهبية على تحويل الإنسان والمجتمع إلى ديستوبيا ملؤها الصراعات والحروب المذهبية.
أما النوع الثاني فهو ديستوبيا الحقوق التي تشمل انتهاك الحريات، فيما يتعرض النوع الثالث إلى ديستوبيا انتهاء العدالة الاجتماعية، ويضم النوع الرابع؛ ديستوبيا الآخر العلاقة بين الرجل والمرأة في المجتمع الديستوبي.
قرائن الديستوبيا
يلفت الباحث إلى أن رواية الديستوبيا تستند على مجموعة من القرائن المصاحبة لها وهي؛ أن أحداثها مستقبلية، وأنها تهكمية ساخرة، ويشيع بها التطرف والمغالاة في الاتجاهات السلوكية والفكرية والمذهبية بها، وكذلك يغيب دور الدين أو يتحول لخدمة السلطة المطلقة وتأييد القمع.
ويقسم الباحث في كتابه أنماط الشخصيات في الرواية الديستوبية إلى شخصيات متسلطة، وشخصيات متناقضة، وشخصيات لا مُنتمية للواقع الديستوبي.
ويُفصّل بقوله: الشخصية المتسلطة هي التي تظهر في رواية الديستوبيا في أشكال مختلفة تشمل الحاكم والأب والأخ والبلطجي ورجل الدين والإقطاعي الذي يتحكم في مقدرات الاقتصاد. أما الشخصية المتناقضة فتعيش صراعا بين الطاهر والمدنس، وبين أن تكون مع الجموع الذين يمارسون كل الموبقات من أجل الحياة وإرثها القيمي، فيما تتصف الشخصية اللامنتمية في الروايات الديستوبية بالثقافة والرؤية الإنسانية وروح التسامح والبحث عن الوجود الحر الذي تمارس فيه إنسانيتها.
ورصد الباحث الأبعاد المختلفة للشخصية الديستوبية وأثرها في الحدث الديستوبي، كما درس علاقة الشخصيات بالراوي ومدى تأثر الحدث بهذه العلاقة، وفي هذا يوضح أن تنوع أشكال الراوي في رواية الديستوبيا منح المؤلف الحقيقي حرية استخدام الراوي لتوصيل رسالته للمتلقي، فيما كان الراوي في بعض الأعمال الديستوبية الأخرى وجهًا آخر للمؤلف بل وسيلة لنقل وجهة النظر في الأعمال الديستوبية.
بنية الزمن
يدرس الكاتب بنيتي الزمن والمكان في رواية الديستوبيا، ويتوصل إلى عدد من النتائج في هذا الصدد عبر دراسة البنية الزمنية الخارجية التي تشمل زمن الكاتب، وزمن القارئ، والزمن التاريخي، وكذلك دراسة البنية الزمنية الداخلية.
وفي هذا الصدد يقول: العمل الروائي الديستوبي هو ابن الزمن وهو الأكثر التصاقا به يدور حيثما يدور لكنه ليس بالسهولة التي كانت في الرواية الكلاسيكية، إنما الرواية الديستوبية ما هي إلا نتاج زمن طويل من التجارب الروائية أثمرت عن استشراف نتيجة التماهي مع الزمن وربطه بالحدث.
ويوضح أن الكاتب في الأعمال الديستوبية قد لا يطرح الزمن بشكل مباشر بل يتركه غامضا أحيانا يُفهم من الأحداث التي يقدمها العمل.
وفيما يخص بنية المكان في الرواية الديستوبية، فيقدّم الباحث تفصيلًا للأماكن السائدة في العمل الديستوبي والأجواء التي تسودها لافتًا إلى وجود الأماكن المغلقة بكثرة في مثل تلك الأعمال مثل أماكن الإقامة الجبرية كالسجن والأماكن المعزولة المفروض على الإنسان التواجد بها.