الأمثال الشعبية.. عصير حكمة المصريين وتناقضهم وحبهم للحياة
الأمثال من أكثر الأشكال التعبيرية المكثفة البليغة انتشارًا، فهى ترمومتر الثقافة الشعبية فى أى بلد وخصوصًا مصر، لأنها بتجسد أفكار الناس وتقاليدهم وأغلبية مظاهر حياتهم.
عندما تتردد الأمثال على ألسنة الناس، بندرك من خلالها روح الشعب، وأفكاره وأحلامه، ونستكشف آراءه فى مختلف شئون الحياة، وكمان بنعرف مشاعره وأحاسيسه وآماله وآلامه وأفراحه وأحزانه وتفكيره وفلسفته وحكمته.
الأمثال القديمة من أبرز عناصر الثقافة الشعبية ومرآة لطبيعة الناس ومعتقداتهم بما فى ذلك رؤية الناس للوجود، وتفسيراتهم لمظاهر الكون حواليهم، وعشان كده الأمثال بتتغلغل فى معظم جوانب الحياة اليومية، وتعكس المواقف المختلفة بل تتجاوز ذلك أحيانًا لتقدم للناس نماذج بتشبههم كقدوة مقبولة فى مواقف متباينة.
والأمثال بتساهم كمان فى تشكيل أنمـاط لاتجاهات وقيم المجتمع، لأنها بتنتشر بسرعة وبتتنقل من جيل لجيل، ومن لغة للتانية عبر الأزمنة والأمكنة، بالإضافة إلى نصها الموجز وما تحمله من معنى عميق ولفظ جميل.
خلينا نعرف إن للمثل أربعة شروط عشان نفرق بينه وبين غيره من الأشكال التعبيرية التانية ونحاول نزيل الالتباس اللى ممكن يكون بينها، زى القول المأثور والحكمة والنصيحة.
أول الشروط دى: هو صحة التشبيه، والثانى: إن المثل يكون معلوم ومتوافق عليه من الجماعة الشعبية اللى بتستخدمه، والثالث: إن المثل يكون مفهوم ومفيش أى التباس فى معناه أو الغرض منه، والرابع: إن المثل يناسب حال اللى بيسمعه عشان يحقق الهدف المرجو منه.
ودلوقتى خلينا ندخل العالم السحرى للأمثال الشعبية المصرية ونشوف أولًا أهمية «العيش» عند المصريين اللى بيحلفوا بيه لتمرير موقف أو حدث أو رفض أو للإرغام على القبول، فييجى الحلفان بالعيش والملح، وبتكون الصيغة «والعيش والملح»، وبيتبدل لصيغة تانية بنفس المعنى «والنعمة دى على عينيا» والنعمة هنا بتعنى العيش، والحلفان ده قديم جدًا من الدولة المصرية القديمة يعنى أكتر من خمستلاف سنة، لكن كان بصيغة مختلفة شوية فيتقال «والعيش والبيرة»- المصريين أول من صنع البيرة من الشعير والنبيت من العنب- وده كان قسم مقدس، وتم تبديل البيرة بالملح فى فترات لاحقة، وامتداد للقسم المقدس بالعيش والملح بنلاقى المصريين بيأكدوا على قوة العلاقة وعدم الخيانة والثقة، فبيقولوا المثل الجميل والإنسانى «ناكل مع بعض لقمة» وكمان بمعنى تانى «إحنا بينا عيش وملح»، وده معناه رباط مقدس ومعنى عميق بالأمان والطمأنينة.
وفى سياق الانتهازية والسيطرة بيقول المصريين ملخصين الولاء فى مقابل العطاء، «اطعم الفم تستحى العين» و«اللى ياكل لقمتى يسمع كلمتى» وبيقولوا المثل الموجز «إيدى فى بُقه»، الدال على المَنّ وانتظار المقابل.
وأما فى سياق الحرص على لقمة العيش واللى بتعنى عند المصريين الشُغل، يخرج المثل البسيط المرتبط بأغلى حاجة عند المصريين وهو رغيف العيش «عض قلبى ولا تعض رغيفى»، وكمان فى نفس سياق الادخار بنلاقى المصريين بيقتصدوا فى استهلاكهم وبيلخصوا ده بالمثل «اللى يستكتر غموسه ياكل عيش حاف»، وكمان لأن المصريين ولاد الحياة وبيقدسوها، لما بيتحطوا فى مفاضلة فيما يخص لقمة العيش بيقولوا «اللى يحتاجه البيت يحرم ع الجامع»، وده مثل قديم من الدولة القديمة وكان بيخص القرابين اللى بتتقدم فى المعابد، ولأن الاقتصاد ملازم المصريين فى حياتهم اليومية، فبنلاقى فكرة الإتقان فى الصنعة اللى هتوفر كتير، وبنشوف المثل الدارج الجميل «إدّى العيش لخبازه، ولو كل نُصّه» والمثل ده بيغطى مجموعة من المواقف مش بس الإتقان، ولكن كمان تقدير التخصص واحترام الخبرة.
وإذا كان الشعور بالعوز مسيطر على المصرى، فإنه بيلجأ إلى توظيف العيش فى مثل بديع «الجعان يحلم بسوق العيش».
وفى الحياة اليومية بيكرس المصريين لبعض المفاهيم الخاصة بالتفاؤل والتشاؤم، فبنلاقى الجماعة الشعبية بتلخص وجود شخص نحس وفقرى زى ما بنقول فى الصعيد بمثلين فيهم دلالة لغوية ورشاقة لفظية «وشّه يقطع الخميرة من البيت» و«وشّه بينشف الزيت»، وطبعًا الخميرة هنا هى أساس عمل العيش اللى هو أساس الحياة، وكمان الزيت أساس الطبخ، وكمان بنشوف فى سياق التباهى بالقدرة والسيطرة على الغير بييجى المثل الموجز القوى «يمشى على العجين ميلخبطوش»، وأما فى سياق الأخوة والكرم فالمثل بيقول «البيت مفتوحلك تاكل لقمة وترمى عشرة».
خلينا نعرف إن الأمثال الشعبية الخاصة بتعزيز المفاهيم الاقتصادية والتنموية وقيم الادخار والاستثمار، لما للأوضاع الاقتصادية من أهمية عندنا كلنا، وإزاى بنساهم بوعى أو من غير فى خلق جدليات مجتمعية حوالين احتياجاتنا الاقتصادية، وإزاى بنلجأ لميراثنا الثقافى عشان نأكد على قيمة الادخار والاستثمار، والأمثال فى السياق الاقتصادى كتيرة وطريفة، وبيستخدمها المصريين فى مواقف متناقضة، زى المثل «اصرف ما فى الجيب يأتيك ما فى الغيب»، واللى بيتقال فى حالة الحث على الكرم مع الآخرين وكمان بيتقال فى حالة التواكل وعدم التدبر، وفى مثل زى «اللى معاه قرش محيره يجيب حمام ويطيره»، بيتقال للسخرية من الأغنياء اللى بيصرفوا بسفه فى الفاضى، من وجهة نظر اللى بيقول المثل.
وفى المقابل بنلاقى المثل اللى بيرد على المثل السابق وهو «هين قرشك ولا تهين نفسك» واللى بيتقال فى موقف صرف الفلوس حتى لو باين تبذير، إلا أنه له مبرر هو راحة صاحب المال والحفاظ على وضعه الاجتماعى.
وييجى مثل زى «اللى معاه قرش يساوى قرش» ليعطينا خلاصة خبرة الجماعة الشعبية فى قيمة الإنسان عامة واللى بيساوى ما يملكه من مال، وده معناه كمان إن «اللى ممعهوش ميلزموش»، وده بيخلى أصحاب المال فى حالة صراع اجتماعى بيلخصه المثل الطيّع «السلف تلف والرد خسارة»، واللى بيستخدم من كل الأطراف كدليل على الامتناع عن تسليف المحتاج، وكمان بيدلل على رفض المقترض ردّ ديونه.
ولحرص صاحب المال، فإنه بيوظف الأمثال للحث على الادخار والتوفير، وعشان كده بنلاقى المثل «إن كنت على البير اصرف بتدبير»، لأن «خد من التل يختل»، ولأن الزمن مش مضمون فـ«القرش الأبيض ينفع فى اليوم الأسود».
وفى ظل الحرص على المكتسبات بنلاقى المثل الأشهر فى الحياة اليومية للمصريين «المال السايب يعلم السرقة» وده للحيطة والرقابة، وييجى الرد بالمثل «المال الحرام ما بيدومش» ليؤكد على قيمة العمل والكسب الحلال.
وفى سياق علاقة الفلوس بالجواز بنلاقى المثل اللى سمعته كل بنت تقريبًا فى محاولة لحثها على القبول بعريس هى مش مقتنعة بيه «ما يعيب الراجل إلا جيبه»، والمثل ده مع إنه موجّه للبنت وأهلها أحيانًا، إلا إنه حصر قيمة الراجل فيما يملكه من مال بس، وفى نفس السياق المثل «الفلوس تخلى الشايب ننوس» واللى بيعلى من قيمة الأموال فى مقابل تقدير الذات، وبيخلى المجتمع يتغاضى عن الفجوة العمرية بين الراجل الكبير والبنت الشابة، لكن بسرعة بييجى الرد فى المثل اللطيف والدقيق «يا واخدة القرد على ماله بكرة يروح المال ويفضل القرد على حاله» للتأكيد على أن المال حالة طارئة على الإنسان واللى باقى هو الود والتكافؤ.
وفى سياق الفضول اللى بيتمتع بيه المصريين، بتنتج الجماعة الشعبية ما يهدئ حالة الترقب والبحث المصاحبة للفضول بالمثل «يا خبر النهارده بفلوس بكرة يبقى ببلاش»، وبمناسبة الحاجات المجانية استخدم المصريون المثل «أبوبلاش كتر منه» للدلالة على الجشع وحب التكويش.
وفى سياق الحياة الاجتماعية للمصريين تسيطر الأمثال الشعبية على اللغة اليومية فتاخد مساحتها فى المواقف الحياتية كافة، فنجد أن «بصلة المحب خروف» لتأكيد الترابط الاجتماعى بالمحبة حتى لو كان الموجود للأكل بصلة، وللتأكيد على التواصل الإنسانى ييجى المثل «اللقمة ما تحلا ولا تطيب إلا بوجود الحبيب»، وبنشوف الرد الحاسم فى المثل اللطيف «إن كان حبيبك عسل ما تلحسوش كله» ليؤكد على التأدب والقناعة.
والمثل اللى بياخدنا لفئة من الناس بتترصد ضيوفها «دوقناه الطعمية قرمش الطبلية» وكمان المثل «اللى ما يشبع من بيته ما يشبع من بيت الجيران» لتعليم آداب السلوك.
وتحذرنا الأمثال الشعبية من الفضول والتدخل فى شئون الغير بالمثل الشهير «يا داخل بين البصلة وقشرتها ما ينوبك إلا صنتها»، وكمان المثل الدال على البعد عن المشاكل «ابعد عن الشر وغنى له»، لأن النتايج هتكون وخيمة لأن «ما ينوب المِخلص إلا تقطيع هدومه».
ولما الأمور الحياتية للمصريين يدخلها النصب والفهلوة واللى بيعتبرها البعض ذكاء، تبدع القريحة الشعبية فى أمثالها المتنوعة والدالة، فنسمع الأمثال الموجزة البليغة فى وصف كل حالة زى «يسرق الكحل من العين»، وفى المقابل لما ييجى يتم كشفه يتقاله «جاى يبيع الميه فى حارة السقايين»، ولكن لأن المصرى «يعرف الكُفت وفين مخبى» فبنشوف الصراع الاجتماعى للجماعة الشعبية لما تعبر بالمثل «يلعب بالبيضة والحجر وينقش بالسبع إبر»، ولما يتم وصم المؤذى نلاقى المثل المتداول بكثرة «يقتل القتيل ويمشى فى جنازته»، وكمان بنشوف المثل الحكيم للشخص اللى بيصدق الوعود ويبنى آماله على الكلام فييجى المثل البسيط «ده كلام ابن عم حديت»، ليرد على مثل متداول وغنى بالمعنى «عشمتنى بالحلق خرمت أنا ودانى.. لا ودانى خفت ولا الحلق جانى»، وتختم الجماعة الشعبية دايمًا بمثل يلخص نظرتها للأمور ومدى استمراريتها فنلاقى المثل المنضبط فى سياقات مختلفة «ياما فى الجراب يا حاوى» واللى بيدل على عدم نهاية الخداع والكذب والمفاجآت.
وتاخدنا الأمثال لعالم توظيف الحيوانات والطيور بمهارة فى التعبير عن مواقف حياتية متعددة ومتناقضة فى كتير من الأحيان، وبنلاقى المصريين بيقولوا مثل زى «الباب يفوّت جمل» للتعبير عن ازدراء أشخاص والاستغناء عنهم وطردهم بسهولة وبنلاقى مثل زى «بوس الكلب من فمه لما تقضى حاجتك منه»، وكمان المثل «لو كان لك عند الكلب حاجة قوله يا سيدى» للتملق والكذب، وبسرعة يترد عليه بالمثل «ديل الكلب عمره ما يتعدل ولو علقوا فيه قالب» للدلالة على استحالة تقويم الفاسد.
وهنا ييجى تبرير الإضرار بالغير بإن «القط بيحب خناقه»، ولكن كمان بتييجى النصيحة بعد خبرة فى التعامل بإسقاط على الحيوانات الموجودة عادة بالمثل الدال «جوّع قطك يصيد فارك وشبّع كلبك يحرسك»، ولما يبان عدم التصديق وإن الأمر مبالغ فيه ييجى المثل من بيئة صحراوية يقول «قالوا: الجمل طلع النخلة، قلنا: آدى الجمل وآدى النخلة»، وكمان المثل اللى بيدل على بيئة بحرية «الميه تكدب الغطّاس»، وللتعبير عن الاستياء فى مواجهة الغباء يقول المثل «إيه فهم الثور إنى دكتور»، ولما ييأس المصرى من فهم الآخرين للمقصود يقول المثل «تور الله فى برسيمه»، ولما يبتدى الاصطدام بالعقليات المتحجرة ينطلق المثل الموجز البليغ «نقول تور يقولوا احلبوه» اللى بيعبر عن استحالة التلاقى فى منطقة فهم أو تفاهم، وكمان فى سياق الحياة اليومية بنلاقى التخلى عن المسئولية وطلب المستحيل من الآخرين وإنهم يتصرفوا وينجزوا من خلال المثل «الشاطرة تغزل برجل الحمار»، ونفس المثل بيتقال للمدح وإبراز تحمل المسئولية وحسن التصرف بأقل الإمكانيات المتاحة، ولكن الامتثال والتنفيذ بيتم استغلاله فبنلاقى المثل «الحمار القصير زى الجحش كل اللى جه يركبه» وبيتم بعدها التمرد على الواقع وبيحضرنا المثل «سكتنا له دخل بحماره»، لتبدأ التهدئة بعدها ومحاولة التفكير الواقعى فينطلق المثل «عصفور فى اليد خير من عشرة على الشجرة»، لكن البعض اللى بيتمسك ببعض القوة بيقول المثل «بات كلب وأصبح سبع» ولما ما يتمّش تحقيق المراد ويتم إعلان الفشل والسقوط يبقى لازم نفتكر المثل «البقرة لما تقع تكتر سكاكينها» للتعبير عن التشفى وفش الغل، وإذا كان الوضع كده فى الحياة اليومية، فإننا بنشوف مثل زى «القرد فى عين أمه غزال» وكمان المثل «عقربة شافت بنتها ع الحيط قالت دى لولى ملضوم فى خيط» عشان يعكس حب الأمهات اللى بيشوفوا أولادهم بعين القلب، ولكن بعد ما العيال بتكبر بنشوف التبدل فى النظرة دى وبييجى المثل اللطيف «ياما جاب الغراب لأمه» للتعبير عن اليأس والإحباط من رد الجميل، ولكن بييجى المثل الجميل اللى بيعبر عن نقل الخبرة والتعلم من الأهل فى المثل «ابن الوز عوّام» واللى بيدل على النجاح والتفوق.
ولأن الجماعة الشعبية دايمًا بتتحايل على مواصلة اللى بدأ، فييجى المثل الظريف والدال «يموت الزمار وصوابعه بتلعب»، لأن مفيش نهاية وكله فى استمراريته.
وخلينا نعرف إن بعض الأمثال وصلتنا من حضارتنا المصرية ولسه بنستخدمها زى ما هى بالظبط، ومنها المجاملات الطيبة واللى بتبدأ دايمًا برقم ألف زى «ألف مبروك» «ألف بعد الشر عنك» والمقصود هنا هو إله الشر «ست»، يعنى يبعد عنك ألف مقياس، وبنشوف التعبير الجميل «ألف ألف سلامة»، وبنلاحظ هنا إن استخدام الرقم ألف له معنى الكثرة، وهو كان الرقم الكبير اللى بيتم تضعيفه للأعداد الأكبر زى ألف ألف يعنى مليون، وكمان فى مثل جميل وبنستخدمه فى المجاملة والمدح «ميت فُل وأربعتاشر» وبيتقال للتعبير عن المثالية والكمال فيما أو مَن نمدحه، لكن ممكن كتير مننا ميعرفش إن أصل الموضوع بيخص المثالية فى الفن المصرى القديم، واللى بنشوف رسوماته على جدران المعابد بأنواعها سواء الجنائزية أو الإلهية، والكلام ده تفسيره إن طريقة رسم الشخص كانت بتّم بطريقة المربعات، فبنلاقى إن طول قامة الشخص ١٩ مربع وعرض أكتافه ٦ مربعات، ولو ضربنا ٦×١٩ هيكون الناتج ١١٤، ومن هنا بيكون حجم الإنسان الكامل المثالى هو ١١٤ مربع وعشان كده بنقول «١٠٠ فل و١٤» للدلالة على الكمال والاتساق.
عمومًا عالم الأمثال واسع ومتعدد الجوانب وزوايا التناول، وهرجع أكتب فيه مرة تانية وخصوصًا الأمثال الشعبية الخاصة بالستات- اللى قصدت ما أكتبش عنها النهاردة- بكل ما تحمله من تناقضات، وكمان أصول وحكايات بعض الأمثال ومساراتها عبر الأمكنة والأزمنة.
وأخيرًا، بنشوف إن الأمثال بتاخد دور قُريّب من التشريع، ولسه ليها هيمنة وحضور قوى فى تأثيرها على الحياة اليومية، ومن المعروف إن بعض الأمثال كان ليها تأثير فى صياغة العديد من الأعراف وقوانين الحياة الاجتماعية للمصريين فى ظل الثقافة الشعبية.