«إنه الإنسان».. التفاصيل الكاملة لقصة ديوان لم ينشر لنجيب سرور
عرفت أن لنجيب سرور ديوان لم ينشر من واقع خبر صغير كتب في جريدة «أخبار الأدب»، وكان الحديث حول الشاعر سمير درويش الذي عثر على الديوان، فعرفت أن هناك قصة كبيرة حول هذا الأمر، وبالتالي كان لا بد من التوجه للشاعر سمير درويش رئيس تحرير مجلة «ميريت» الثقافية لسؤاله.
في البداية اندهش «درويش» لمعرفتي بديوان نجيب سرور الذي لم ينشر، وسألني أين قرأت الخبر فأخبرته، فقال لي: «نعم أذكره»، وكتب سمير درويش الحكاية كلها، وكيف كانت الظروف مساهما في عثوره على هذا الديوان الذي لم ينشر للشاعر والكاتب المسرحي الكبير نجيب سرور.
يقول «درويش»: «في التسعينيات كنت موظفًا باتحاد كتاب مصر، حين دخل شاب عادي، يبدو قليل التعليم، يسأل عمن يمكنه أن يتحدث معه في أمر مهم، ولما كنت أقرب من يمكن أن يقوم بهذا، فقد أرسله الزملاء لي، عرفني بنفسه بالاسم الأول فقط: وليد، وقال إنه وجد ديوانًا مجهولًا للشاعر نجيب سرور، وأشار إلى لفه بيده تشبه الكتاب المغلف بالورق، وقال إنه يريد أن يبيعه، ومن طريقته فهمت أنه يتوقع مقابلًا ضخمًا، فطلبت منه أن أطلع عليه فتردد في البداية، لكنه أخيرًا فتح المغلف وناوله لي.
وجدت بيدي كشكولًا أقرب إلى شكل المربع، مغلف بغلاف بلاستيكي خفيف بني اللون، وورقه مسطر على شكل مربعات صغيرة، مثل الأوراق التي يستخدمها المهندسون في الرسم، داخله ديوان مخطوط بقلم أزرق بعنوان «إنه الإنسان»، الخط منمق جدًّا والسطور منسقة كأنه ديوان مطبوع، أو هو الشكل الذي يجب أن يحتذى وقت الطباعة.
قلَّبت في الكتاب وقرأت بعض القصائد بدون ترتيب، ولأنني قارئ لمعظم أعمال نجيب سرور في وقت مبكر، حينما كنت طالبًا في الجامعة، أدركت أن هذا الديوان له بالفعل، نفس معجم اللغة، والأسلوب، والصور.. إلخ، وأدركت أن بين يديَّ ثروة حقيقية، لأنني لم أسمع من قبل عن ديوان بهذا الاسم لنجيب سرور.
أفهمت وليد أنه يبالغ في حجم «الثروة» التي ينتظرها من بيع الديوان لسببن: الأول أن الأدب عمومًا لا يدر مالًا وفيرًا، وأن الكاتب نفسه إن باع ديوانه فغاية ما ينتظره منه حوالي ألف جنيه -بأسعار بداية التسعينيات-، وثانيًا لأن نجيب سرور له ورثة، ولا يستطيع أي شخص أن يطبع ديوان له دون إذنهم، هذا إذا افترضنا أنهم سيوافقون على طباعته أساسًا، فقد يكون لهم رأي مخالف. وقلت له إن غايته أن يصل إليهم ويسلمه لهم وأتصور أنهم سيكافئونه.
بعد شد وجذب ونقاش وقياس احتمالات، وافق وليد أن يترك لي الديوان عدة أيام لأكتب عنه في الصحف للتعريف به -لم يكن الإنترنت منتشرًا على نظاق واسع مثل الآن- لعلنا نجد من يريده ويدفع المكافأة.
وتركه بالفعل، وكتبت عن الديوان في عدة جرائد: القاهرة والجمهورية وحوار مع أخبار الأدب، وحوار مع جريدة الأهرام في الصفحة التي يشرف عليها الشاعر بهاء جاهين، وهذا الحوار الأخير هو الذي رأته السيدة زوجة نجيب سرور.
بعد نشر الحوار في الأهرام بأيام زارني وليد للمرة الثانية والأخيرة، طلب الديوان ورجاني أن أتوقف عن الكتابة عنه، فاحترمت رغبته واتفاقنا وتوقفت بالفعل، لكنني لم أعرف من هو وليد، وما اسمه الكامل، وأين يسكن، وما هو رقم هاتفه «كان قد أعطاني رقمًا وقال إنه رقم أخيه، وصدقته، فقد كانت التليفونات المحمولة في بداية ظهورها، وكانت غالية جدًّا لدرجة أن من يحملون تليفونات لا يستخدمونها!».
في أحد الأيام فوجئت بسيدة أجنبية تدخل اتحاد الكتاب وتسأل عني، قالت لي إنها زوجة نجيب سرور، وأكدت لي أن "إنه الإنسان" ديوانه الأول، قبل كل دواوينه المنشورة، كتبه أيام دراسته في موسكو -وهذا واضح كما سأبين-، وفقده في قبرص، حيث كانا يقيمان في بنسيون، وعندما نفذت أموالهما قررا ترك البنسيون والبحث عن حل، وتركا الحقيبة في الأمانات حتى لا يتجولان بها في الشارع، وبعد أيام عادا وأخذا الحقيبة وغادرا قبرص، وعندما فتحتاها في مستقرهما اكتشفا أنها ليست حبيقتهما، وكان ديوان «إنه الإنسان» في الحقيبة التي فقدت.
وليد كان قال لي إنه وجده مع بائع روبابيكيا، وهي قصة ليست معقولة، لأن الديوان كان نظيفًا جدًّا ومعتنًى به كأنه كتب اليوم، ثم كيف يصل الديوان من قبرص للروبابيكا في مصر؟.
حكيت للسيدة زوجة نجيب سرور قصة وليد، لكنني لم أقل لها إنني حصلت على نسخة ضوئية من الديوان، لأنني -في الحقيقة- حصلت عليها لنفسي فقط، وكنت -أخلاقيًّا- لا أحبذ التصرف فيها، لأن (وليد) ائتمنني عليها.
السيدة زوجة نجيب سرور قالت إنها لا تفهمني بدرجة كافية لأنها لا تجيد اللغة العربية وأنا لا أجيد الإنجليزية، وقالت إن فريد ابن الشاعر الراحل مسافر خارج مصر الآن وسيعود قريبًا، وسوف يأتيان معًا ليقابلاني عند عودته، لكنهما لم يأتيا أبدًا، فنسيت الموضوع برمته، «كان شهدي نجيب سرور خارج مصر بصفة مستمرة لصدور أحكام قضائية ضده بسبب الموقع الذي أنشأه لوالده على الإنترنت».
بعد أكثر من 15 عامًا كان الأستاذ محمد سلماوي يشرف على ترميم المبنى الأثري بالقلعة الذي حصل على قرار من وزير الثقافة فاروق حسني بتخصيصه لاتحاد الكتاب، وكان يجمع مقتنيات كبار الكتاب مثل نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس ويحيى حقي وعبد الرحمن الشرقاوي وإحسان عبد القدوس.. وغيرهم، ويصمم لها أركانًا بأسماء هؤلاء الكتاب، مثل كلمة نوبل لمحفوظ، ومسرحية بخط الحكيم والبيريه والروب خاصته.. إلخ، فذكرت له موضوع ديوان نجيب سرور، والصورة التي أمتلكها.
مرور السنوات جعلني متحررًا من وعدي القديم لوليد، فلو كان تصرف فقد تمت مكافأته وانتهى الأمر، ولو فشل فقد فشل وانتهى الأمر!
طلب مني الأستاذ سلماوي البحث عن وليد لأنه مستعد لشراء الديوان، فبحثت عنه كمن يبحث عن إبرة في كومة تبن، وفشلت بالطبع، واستقر الرأي أخيرًا أن يتم تغليف صورة المخطوط وضمها لمقتنيات مبنى القلعة -مع وصية توفيق الحكيم بحط يده التي قدمتها أيضًا للأستاذ سلماوي-، ووضع رئيس الاتحاد هذا المغلف على مكتبه على حامل يشبه حوامل المصحف التي يستخدمها القرَّاء.. ومن يومها لا أعرف عنه شيئًا.
قصائد الديوان سياسية بامتياز، على غرار ما كان يُكتب في الخمسينيات والستينيات، لكنه يختلف في معارضته (الجارحه) لجمال عبد الناصر باعتباره امبرياليًّا عميلًا لأمريكا، على الأقل لأنه سجن الشيوعيين ومنهم شهدي عطية الشافعي الذي أعتقد أن الديوان أهدي له، في مقابل الانحياز للاتحاد السوفييتي الذي بنى السد العالي وساعد مصر.. إلخ.
غير هذه النبرة السياسية الزاعقة تستطيع أن تتلمس كل الخطوط التي انتشرت في دواوين نجيب سرور الفصحى التي كتبها ونشرها بعد ذلك، أسلوبه ولغته.. إلخ، غير أن بعض المقربين منه أكدوا لي أن خطه كان جميلًا ومنمقًا بالفعل، وأن تنسيق الديوان على هذه الصورة ليس غريبًا عليه.