عندما رفعنا رءوسنا بفخر عند المسلة
تسلل شخص إلى حرم مسلة رمسيس الثانى، التى تتوسط ميدان التحرير، طلّع «شاكوش» وضرب واحدًا من الكباش الأربعة حول المسلة، وهو يصيح «الله أكبر»، وفى لمح البصر كان الأمن المكلف بحراسة المكان قد سيطر عليه دون أن يصيب أحدًا، لكنه أصاب أنف أحد الكباش، وقد بدأت وزارة الآثار فى الترميم فورًا.
حادثة عجيبة يقوم بها شخص خارج من السجن لتوه، كان يهذى بكلمات غير مفهومة حول قيامه بتكسير الآثار، وده يخلينا ننتبه لوجود من يرون أن الآثار أصنام وأوثان وعليهم الجهاد ضدها، وعلينا أن ندرك أن بعضهم لا يحمل «شواكيش»، ولكن يقدمون الحضارة العظيمة لزوار الأماكن الأثرية من خلال معلومات دينية، وقد سمعت ورأيت هذا بنفسى فى معابد وأماكن أثرية كنت متواجدة فيها بالصدفة، وأيضًا يركز البعض بوعى أو بدون على تبنى مقولات وأمثال تضرب فى قلب حضارتنا بكلام مسموم، حتى ترسّخت فى أذهان العامة أمثال شعبية زى «يا فرعون مين فرعنك، قال مالقتش حدّ يلمنى»، وكمان «اللى نقول عليه موسى يطلع فرعون»، وذلك فى إشارة إلى الطغيان والجبروت، الذى هو بعيد عن حضارة أنارت العالم. لذا علينا العمل لتغيير الرؤية ودمج دراسة حضارتنا فى التعليم بشكل أكبر مع زيارات للأماكن الأثرية بصحبة متخصصين وعقد ورش للأطفال، زى ما بيعملها المتحف المصرى فى الإجازات فى مدرسة الأطفال، أتمنى أن تعمم التجربة فى كل المحافظات والمراكز والقرى.
والحال هكذا، أتذكر أننى منذ سنوات كثيرة كنت فى «نيويورك» بدعوة من الأمم المتحدة، أخدت تاكسى مع زميلة مش مصرية من أمام مبنى الأمم المتحدة للذهاب إلى «برودواى». السواق كبير فى السن وملامحه شرق آسيوية، بعد ما التاكسى مشى شوية، السواق وقّف العربية فجأة جنب الرصيف، ونزل فتح الباب اللى جنبى، وشال إيدى من على الشنطة اللى على حجرى وانحنى وباسها ورجعها تانى مكانها بتبجيل واضح، ولف ورجع مكانه ومشى عادى.
طبعًا أنا اتسرعت وقفز فى ذهنى كل الكوارث اللى بشوفها فى الأفلام الأمريكية، وزميلتى اتجمدت ف الكرسى ووشها بقى لون شعرها، المهم قبل ما انطق لقيته بيقول: «تى كوين» يعنى «الملكة تى»، الملكة المصرية، زوجة الملك العظيم، وأُم الملك الأعظم، وجدة الملك الخالد الصغير. وشاور على قلادة أنا لابساها، وبكون حريصة إنى ألبسها وأنا بره مصر، قلت له: أيوه دى الملكة تى العظيمة، قالى: وأنتى المصرية حفيدتها وأنتى بتشبهى عظيمة العظيمات.
طبعًا أنا كنت سعيدة وفضلت أستعرض معلوماتى اللى درستها فى علم المصريات بفخر.
لقيت السواق بيقولنا: إنه من اليابان، وإنه عنده دكتوراه فى علم المصريات، وإن حلم حياته يزور مصر المقدسة أرض الآلهة.
وفضل يتكلم ويتكلم عن مصر والفراعنة بتقديس مُلهم وهو منبهر وشغوف بأهلى وناسى وبلدى.
المهم أن الدكتور كان عمره فى الوقت ده حوالى ٦٢ سنة وبيشتغل سواق، لإن ولا جامعة أمريكية قبلت يدرّس فيها علم المصريات اللى هو تخصصه، ولم أفهم الأسباب.
تانى يوم فى فترة استراحة الغدا قابلت الدكتور واتكلمنا مطولًا، وكانت أفكارًا كثيرة تقفز فى ذهنى وأنا بتخيل لو أن حلم حياته اتحقق وجه مصر.
المهم خلصت المؤتمر ورجعت وصورة الدكتور السواق وهو بيتعامل معايا بكل تبجيل لمجرد إنى لابسة قلادة بصورة الملكة تى، كانت بتبهرنى وتحزنى فى الوقت نفسه.
بعد يجى شهرين تقريبًا، كنت رتبت زيارة للدكتور وقدرت أجيبله تذكرة رخيصة وبعت له عشان يجى.
ومهما عشت وهعيش، عمرى ما هنسى نظرة عينين السواق الدكتور لما دخلنا المتحف المصرى، وهو واقف أمام كل أثر يتأمل ويدوِّن، وطبعًا لما شاف الأهرامات ودخل الهرم من جوه، وزار السرابيوم وسقارة ودهشور، ولما زار ميدوم وبعدين تل العمارنة وتونا الجبل بنى حسن فى المنيا، وراح أبيدوس العظيمة، وكانت السعادة كلها فى الأقصر وأبوسمبل ومعابد فيلا وألفنتين والخزان والسد العالى، ووديته بيت نوبى، لكن هو ماكنش مهتم بأى حاجة غير الفراعنة المصريين، وكأنه مسحور فعلًا. وهو ماشى سألنى: لو ينفع يفضل باقى حياته هنا، ولما يموت يتدفن فى البر الغربى فى حضرة أوزير؟
الدكتور المُحب لبلدى، مات بعدها بسنتين، لكن روحه فضلت هنا، وزى ما قالى وهو ماشى ف المطار: إن دى أحزن لحظة فى حياته، لأنه بينتزع من جدوره، وقال: أنا مش عارف إزاى ماشى من المكان الحقيقى لروحى وقلبى؟! إيه المنطق؟
أفكر لو أن الدكتور جاء اليوم إلى ميدان التحرير، وشاهد كل هذا التطوير، ورأى مسلة رمسيس التانى والكباش الأربعة رمز الإله «آمون»، فإنه كان بالتأكيد سيقف عند المسلة رافعًا رأسه أمام إنجازات حضارتنا بفخر يقارب فخرى ببلدى أصل الحضارة واستمرارها.