السينما وحرب أكتوبر
مر بنا فى الجزء الأول من المقال كيف لم تستطع السينما الروائية تقديم الاستجابة الكافية لحدث كبير مثل حرب أكتوبر، وربما يعود ذلك- كما أوضحنا- إلى أن السينما الروائية صناعة لا تحتمل الخسارة، فالمنتج بطبعه لا يميل إلى الإنتاج باهظ التكاليف، والأفلام التاريخية والحربية على وجه الخصوص «سفنجة فلوس»، وهنا لا بد من دعم الدولة فى الإنتاج كما ذكرنا فى حالة الفيلم الشهير «الرصاصة لا تزال فى جيبى». يضاف إلى ذلك سرعة التحولات فى المجتمع المصرى بعد حرب أكتوبر وسياسة الانفتاح الاقتصادى التى عصفت بالمجتمع، وأصبحت بحق «تريند» فى السينما المصرية فى السبعينيات والثمانينيات، وربما نستطيع أن نضيف- ولكن بحذر- أثر اتفاقية كامب دافيد على تطور الأحداث فى المنطقة، وعدم الرغبة فى تذكير المجتمع بالحروب بعد الإعلان عن أن حرب أكتوبر «هى آخر الحروب».
وإذا كانت السينما الروائية لم تفِ حرب أكتوبر حقها، فإنه على النقيض من ذلك استطاعت السينما التسجيلية القيام بهذه المهمة خير قيام، وعلينا هنا أن نتذكر ما رصده المؤرخ الفرنسى الكبير «مارك فيرو» عن ارتباط الكاميرا بالحروب، ففى دراسته عن السينما والتاريخ يوضح أنه برغم أن اختراع الكاميرا هو وليد القرن التاسع عشر، والسينما وليدة نهايات القرن التاسع عشر، فإن الحرب العالمية الأولى التى اندلعت فى عام ١٩١٤ واستمرت حتى ١٩١٨، أعطت الكاميرا والتصوير السينمائى دفعة قوية لتسجيل وقائع الحرب وحياة المدن تحت النار.
وبالنسبة لحرب أكتوبر يمكن أن نلاحظ أنه يقف وراء غزارة وقوة إنتاج السينما التسجيلية جبهتان أساسيتان: أولًا المركز القومى للسينما التابع لوزارة الثقافة، ثانيًا الشئون المعنوية التابعة للقوات المسلحة.. من هنا توفر الدعم اللازم للأفلام التسجيلية؛ الدعم المادى وأيضًا الدعم اللوجستى.
ولكن لا ينبغى أن ننسى حماس جيل من شباب المخرجين والمصورين، هذا الجيل الذى فُجِع فى هزيمة ٥ يونيو، وعاش الأمل مع حرب الاستنزاف، وها هو يشاهد فى ٦ أكتوبر تباشير النصر.. يروى لنا مدير التصوير الشهير «سعيد شيمى» كيف تجمع شباب المخرجين والمصورين، صبيحة ٧ أكتوبر، فى مكتب وزير الثقافة «يوسف السباعى» طالبين الذهاب إلى الجبهة للقيام بدورهم الوطنى لتسجيل هذه اللحظات الخالدة، وبالفعل تم التنسيق مع الشئون المعنوية، وصدر الأمر لمجموعتين من المخرجين والمصورين بالسفر والالتحاق بالجيشين الثانى والثالث، حيث ذهب داود عبدالسيد- المخرج الكبير بعد ذلك- ومعه سعيد شيمى إلى الجيش الثانى، والمخرج حسام على ومحمود عبدالسميع- مدير التصوير الشهير بعد ذلك- إلى الجيش الثالث.
ساعدت كل هذه الأمور، دعم الشئون المعنوية ودور المركز القومى للسينما وحماس جيل من شباب المخرجين والمصورين، على خروج العديد من الأفلام التسجيلية عن حرب أكتوبر، بحيث أصبحت هناك ظاهرة فى السينما التسجيلية هى أفلام حرب أكتوبر، قام برصدها ودراستها الناقد الكبير «سمير فريد» فى كتابه المهم «حرب أكتوبر فى السينما».. ومن اللافت للانتباه أن معظم من شارك فى هذه الظاهرة- وأقصد «السينما التسجيلية لحرب أكتوبر»- سيصبحون بعد ذلك أهم رموز حركة تطور السينما المصرية، نتذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: شادى عبدالسلام وداود عبدالسيد وخيرى بشارة وهاشم النحاس وغيرهم، هذا الجيل وجد نفسه مع انتصار أكتوبر، وأخرج لنا ثروة من السينما التسجيلية تعوض قصور السينما الروائية عن معالجة حرب أكتوبر، لكن للأسف لا تتم الاستفادة من هذا الكنز الاستفادة المُثلى؛ حيث يجب عرضه على الفضائيات طوال العام وليس فى ذكرى أكتوبر فقط، كما يجب عرضه على مستوى المدارس والجامعات، واستضافة مخرجيه ومصوريه فى ندوات تفاعلية مع الطلاب لاستعادة روح أكتوبر فى بناء المستقبل.