كرامات الجندى المصرى البسيط
يعني أكتوبر، أول ما يعني، قدرة الجندي المصري على تحدي أعدائه وهزيمتهم، ربما كان الأعداء مسلحين بصورة أغنى وأحدث، ومدعومين من دول لا مثيل لعظمتها، لكن القادم من أقصى جنوب الصعيد مسلحا بدعوات أمه البسيطة الطيبة أقوى عزيمة وأكبر سندا، ومثله إخوته من النوبة والعاصمة والدلتا وبلاد السواحل والبدو الصحراويين، كلهم مصريون، وكلهم مرتبطون بتراب وطنهم ارتباطا حميما صادقا، وكلهم رهن إشارة مصر، وفداء مصر..
لقد عرفنا وقائع تلك الحرب الخالدة على مر الأجيال، وعرفنا قادتها العسكريين، وأبطالها ذوي الرتب، ودور كل سلاح من أسلحتها الحربية، من أول الطيران إلى المشاة، وقد نكون بحاجة إلى معرفة جنودها العاديين، صغار الدرجات كثيري العدد، ممن يمثلون العامل الفارق في ساحات القتال، ولو فقدوا يقينهم بأنفسهم انقلبت الكفة لصالح الأعداء، ولو ذهبت شجاعتهم ذهب معها كل شيء، وباءت الجهود بالفشل الذريع.. جهود التخطيط والإعداد والإمداد.
لقد كان الجندي المصري البسيط على قدر المسئولية وزيادة، كان كرموزه بالضبط، ولم يكن واحد من هؤلاء الشبان القادمين من كل ناحية في الوطن، تلبية للنداء الوطني الذي تقشعر له الجلود، بأدنى أنملة من المهمة التي كلفه بها سادة فرقته أو كتيبته، وكانوا جميعهم كأنهم الأشقاء، بالرغم من الاختلافات الطبيعية في البيئات واللهجات والطبائع والأهواء والعقائد، إلا عقيدة الانتماء إلى الوطن طبعا، بل لقد شاع أن المسيحيين المصريين المقاتلين، وهو صحيح ودقيق، كان بعضهم يشارك إخوته المسلمين في صيام أيام رمضان!
العلم المصري، بدلالة رفرفته الحرة التي تعني حرية الوطن، كان شغلهم الشاغل، وكان الفرد منهم لا يتخيل عودته إلى أهله وجيرانه دون رفع العلم واسترداد الأرض.. الأهل والجيران هم الرقابة الفعلية على ضميره، بعد رقابة الله، هم القيمة التي يشعر أمامها بالرفعة لو أصاب هدفه وبالخجل لو أخفق في مراده، كما أن طاعة الرؤساء في ساحات القتال أمر حتمي يبشر بالانتصار، ومخالفتهم سقوط ينذر بالانكسار، ومن نافلة القول أنه لا مجال للاجتهاد في الحرب؛ فأقل خطأ قد يساوي كارثة محققة!
تحمل الجندي الصغير كل الألم، وصبر صبرا هائلا على الشدائد التي واجهها بطول فترات تدريبه وتهيئته للقتال، وضرب مثلا رائعا في سرعة الفهم وتعلم ما عليه أن يتعلمه، وحين جاء الوقت، كان أسدا بكل معنى الكلمة، تقدم ولم يتأخر، فلم ترعبه الدماء، ولم تثنه عن عزمه قسوة الأجواء، ولم تضيعه متاهات الرمال.. الله في قلبه والوطن في قلبه والناس في قلبه، كان مدده من الله قرآنا وإنجيلا وصلوات وتكبيرات، ومدده من الوطن نيلا وأهراما ومواقف وتاريخا، ومدده من الناس حكما وأمثالا وأمنيات ومحبة، وكان يدرك أن العالم يتابعه، وكان مصرا أن يكون عمله كبيرا في عين العالم!