نقاد وتشكيليون عن جدارية «الجوع» لـ طه القرني: تجربة فنية فريدة
عقب افتتاح معرض الفنان التشكيلي طه القرني في 3 أكتوبر والمقام حتى 28 من الشهر الجاري بقاعة أزاد بالزمالك، جاءت ردود فعل النقاد والفنانين التشكيلين حول جدارية "الجوع " التى تشير إلى فراداتها وثراء التجربة الفنية لـ طه القرني.
وقال الكاتب والفنان التشكيلى الدكتور خالد البغدادى إننا نستطيع أن نتأمل تجربة الفنان طه القرنى الذى يمتلك مشروع فنى يعمل عليه خطوة خطوة فى هدوء وتؤده، فكل عمل جديد مرتبط بالعمل السابق ويمهد للعمل القادم، وهنا تأتى الأهمية التاريخية لملحمته الجديدة (الجوع)، إنه قد يكون العشاء الأخير لجموع بشرية كثيرة، تعيش وتموت ولا يعلم عنها أحد، إنها صرخة احتجاج ضد آلة الدمار الشامل الموجهة ضد إنسانية الإنسان، ومشاهد الدمار والموت المجانى والحقيقة أن هناك أعمال تطرح أسئلة، وهناك أعمال تقدم إجابات، لكن هذا العمل يلغى الأسئلة وينفى الإجابات!، ويطرح دوامات من علامات التعجب ودومات من القلق والغضب.
أضاف أنه عمل يفتح الجرح ويضغط على الألم فى محاولة لصنع مشهد سينوغرافى ثلاثى الأبعاد – طول وعرض وارتفاع - على لوحة مسطحة ثنائية الأبعاد، فزاوية الرؤية الخاصة الحاكمة لبناء التكوين تفرض بعدا بصريا بين المشاهد وشخوص العمل، يفرض نوعًا من الارتفاع والعمق الوهمى، تصنعه حالة من الإدراك العقلى الخادع، إنه تحدى بصرى يخشاه الجميع، لكنه سحر الفن وخدعة الهندسة والمنظور الرياضى، وعندما شق بفرشاته سطح اللوحة الأبيض عند أول بقعة لون، كسر حاجز الصمت وكأنه فتح البعد الرابع أو البعد إكس (x) الذى يفتح على المجهول الأزلى الأبدى، حيث الزمان لا زمان والمكان لا مكان، لكن سراديب مظلمة وممرات ضيقة لعله يجد مفتاح السر وحل اللغز، وغالبا ما تجرى تجربة التحول الشكلى هذه فى المناطق القابلة لتلبية نداء الخيال، والحنين لعوالم ما قبل الذاكرة، فتتحور الأشكال بصورة ساحرة ومكثفة بالتشبيهات، إذ تفيض الصور المختزنة والذكريات وتنشأ الرغبة فى إزاحة جانب من الحضور المادى لتسهيل إندماج الذكرى مع الرؤية البصرية، فكل عمل فنى له جانب يتوجه الى (البصر) وآخر يتوجه الى (البصيرة) ، فالصور الشكلية والتشكيلية تتفاعل مع مفردات وثنايا التكوين لتشكل رؤية كلية محملة بالأبعاد والدلالات.
شدد الناقد التشكيلى ياسر سلطان على أن لوحة معرض "جدارية الجوع" هى مشهد بانورامي لحشد كبير من البشر تبدو عليهم علامات الجوع، المشهد مرسوم بمنظور عين الطائر ويمتد عرضاً إلى عشرة أمتار وبارتفاع مترين ويُذكرنا بصور المجاعات والجفاف في أفريقيا التي أصابت العديد من المناطق جنوب الصحراء الكبرى، خاصة خلال حقبتي الثمانينيات والتسعينيات، وقد لا ينتمي لأفريقيا بالضرورة، إذ صارت مشاهد البؤس منتشرة اليوم في أماكن كثيرة من العالم، نتيجة للحروب والصراعات والأزمات الاقتصادية وغيرها من المحن الأخرى المحيطة بالإنسانية، ولعل الدرس الوحيد الذي يمكن أن نستفيده من هذه التحديات رغم قسوتها، هو ضرورة التعاون والعمل سوياً، مشيرا إلى أن في اللوحة ثمة إشارة مضافة، تتمثل في دائرة كبيرة تحمل شعاراً لأهم الجوائز الدولية على الإطلاق، وهي جائزة نوبل، التى انبثقت فكرتها في الأساس من شعور صاحبها (ألفريد نوبل) الطاغي بالذنب، أو المسؤولية الأخلاقية عن ضحايا الحروب والنزاعات، فكان تدشينه للجائزة نابع من رغبة لديه في تصحيح هذا الخطأ، تحيلنا الجائزة وملابسات وجودها إلى أهمية مخاطبة الضمير الإنساني، فنحن هنا أمام تجربة فريدة وثرية في مجال التصوير، وهي تجربة تزخر بالعديد من نقاط القوة بداية من تمكن صاحبها من أدواته إلى إيمانه الشديد بقدرة الفن على التغيير والتصدي لكافة القضايا التي تمس الشأن المحلي أو الدولي، والإنساني على نحو عام.
ووصف الفنان التشكيلى محمد كمال جدارية الجوع بـ"بين التمسك بالأرض والإستغاثة بالسماء"، وقال إن الواقع المعاش يحفل دائماً بتنوعات ثرية للدراما الإنسانية على المسرح البشرى، عبر المطامع والحروب والغزوات التى تتذرع أحياناً بالعدالة والحماية من الشرور، وفى أحيان أخرى تعرب عن وجهها القبيح دون خجل يذكر، وبين الحالتين تكمن مقاومة المستضعفين للمستبدين بطرق ووسائل كثيرة يتقدمها الإبداع كأحد الأدوات الفاعلة المؤثرة التى يصعب منعها أو حجبها بكل ضروب البطش والتنكيل، والمدهش أن هذا الجبروت كان فى بعض الأحيان يشكل مصدراً لإلهام العديد من المبدعين الذين كانوا ومازالوا يرون أن هذا القهر يبعث الرمزية اللامباشرة داخل رحم العمل الإبداعى، من منطلق الإحساس الرهيف بسياقهم الإجتماعى والسياسى، ويعد الفنان الكبير طه القرنى هو أحد أهم هؤلاء، حيث يرتمى دائماً فى حضن سياجه البيئى المصرى بكل تجلياته الشعبية، وازداد انفعاله فى جدارية" الجوع " بأزمات البشر، وجسد الفنان هؤلاء المسحولين عرايا من كل ملابسهم إمعاناً فى الضغط الرمزى على المتلقى من أجل استنفار التعاطف بداخله معهم ومع كل أشباههم فى العالم المستباح من تجار البشر، ورغم احتدام هذه المأساة البشرية التى أراد القرنى فضحها وتعريتها للعالم، إلا أنه أبقى على رعشة الأمل من خلال تلك الومضات المضيئة على رؤوس وأجساد أبناء جداريته، هذا التكاثر البشرى الأفقى كجبهة للمقاومة إفترش بها الفنان الكبير طه القرنى المنطقة الواقعة بين القتال والاستعطاف، من خلال تحريض أبطال جداريته على التمسك بالأرض والاستغاثة بالسماء.