بينى وبين الله سجدة
كثيرا ما أتأمل حياتي وما بها من لحظات نجاح أو لحظات يأس، يمر بخاطري شريط طويل من المشاهد واللحظات الفارقة، والتي تنتهي دوما بسجدة بيني وبين الله.
أول ما عرفت الموت وعانيت من آلام الفقد كان يوم أن غادرنا جدي، أذكر أنها كانت أول سجدة في غير أوقات الصلاة، كنت صبية في الرابعة عشرة من عمري، بينما يغسِّلونه في الغرفة المجاورة، سجدت أبكي بحرقة وأدعو الله أن يرحم جدي، لدرجة أنه أصابتني إغماءة طويلة استيقظت بعدها وقد غادر جدي البيت، يومها رأيته في المنام يربت على كتفي ويعانقني العناق الأخير.
توالت بعدها سجدات عديدة، سجدات فرح وسجدات استغاثة، فرحة الحب الأول، النجاح والتخرج، السفر الأول على جناح طائرة، فستان الفرح والزفاف الأسطوري، ثم فقد أمي وبعدها أبي، وعقبات لم تكن بالحسبان ولم يكن لها من مخرج سوى الدعاء وسجدات الاستغاثة.
أما سجدتي الحميمة بيني وبين الله فكانت يوم أن بشرني الطبيب أنني أحمل ابني الذي أسميته أحمد وهو لم يزل نطفة في رحمي، فقد تمنيته بعد بنتين هما أجمل ما رزقني ربي، وكنت أؤجل قيامي بالعمرة وأقول في نفسي «سأقوم بعمرة بعد أن يرزقني الله بصبي»، هذه المرة قلت لنفسي «سأقوم بالعمرة أولا»، وبعد أن أديتها بُشّرتُ بالولد.
سجدتي الطويلة مع الله كانت لحظة حصول ابنتي الكبرى على مجموع 99.5 بالمائة في الثانوية العامة ودخولها كلية الطب البشري، وتبعها إخوتها الذين حالفهم التوفيق والتحقوا بطب أسنان وصيدلة، سجدة سجلت بها هذه اللحظة الفارقة في ذاكرتي، كأسعد لحظة شعرت فيها بمكافأة الله على مجهودي الذي تكلل بالنجاح والفرح والبهجة.
سجدة العرفان التي لا تفارقني لحظة أمسكتُ بيدي أول كتاب يُنشر لي، سجدت لله واحتضنت الكتاب في قلبي، فقد كان حُلما وتجسد، ولم أتوقع أن يتبعه كتاب ثانٍ وثالث ورابع حتى تربعت روايتي الجديدة "تبغ وشوكولاتة" على عرش أمنياتي، وتعددت سجدات الحب والامتنان.
وكأن السجدة هي عودة إلى الله، اعتراف بأنني أنتمي إليه ولا حول ولا قوة لي من دونه، وكأن كل شىء ببدني يسجد، عقلي يسجد بالشكر، روحي تسجد بالحمد، ضميري يسجد بالحب، يُطيِّب الله خاطري فأسجد ويسكن القلق ويكف التوتر عن الاحتجاج، وكأن بيني وبين الله لحظات محبة وعشق وطقوس شكر، وعهد امتنان لا أوفي به سوى في السجدة.