الكبار فى عيدهم بين عقد الصحة.. والمهارات الرقمية
خير مفتتح لمقالي اليوم هذه التهنئة الرقيقة التي وجهتها السيدة انتصار السيسي بمناسبة الاحتفال والاحتفاء العالمي بيوم المسنين، قالت :"نعتز باليوم العالمي لكبار السن، لنعبر عن تقديرنا للأجيال السابقة التي قدمت لنا الكثير من العطاء، لإسهامهم في تنمية الوطن، ونؤكد اهتمام الدولة المستمر بكبار السن وتوفير كل متطلباتهم وسبل الدعم المختلفة".
كلمات تمدنا بمنطلق للتأمل في أهمية تخصيص عيد لهم؛ فمما لاشك فيه أن الاحتفالات الدولية والمناسبات المختلفة من شأنها أن تلفت نظر العامة من المواطنين في أنحاء العالم إلى القضايا المهمة التي تحيط بهم بإلقاء الضوء عليها، وتسهم في جذب القيادات السياسية للدول نحو شمولها بالعناية ووضع تلك القضايا- التي تبوأت مكانًا داخل أجندة الأمم المتحدة وتم احتضانها والتنبيه إلى ضرورة حشد الجهود الدولية والموارد في استنهاض الحلول الناجعة لكل مايحدق بها من مشكلات- نصب أعينها.
إن التقدم في عمر الشيخوخة أصبح في طليعة التحولات الاجتماعية في القرن الحادي والعشرين؛ فهي تلقي بظلالها على كل مناحي الحياة المجتمعية، من حيث تأثيرها الملموس على أسواق المال والأعمال، وما ينطوى عليه من احتياجات خدمية ملحة والتطلع إلى الحياة الاجتماعية المستقرة ماليًا وصحيًا. فالمسنون في هذه المرحلة الحرجة من حيواتهم يلتمسون الرعاية الفائقة من أجل حياة ملؤها الطمأنينة والراحة والأمان.
لذلك حث عقد التمتع بالصحة المزمع على مدار ١٠ سنوات ( من٢٠٢٠ وحتى٢٠٣٠) الحكومات والمجتمع المدني والوكالات الدولية ووسائل الإعلام والدوائر الأكاديمية وغير ذلك من المهنيين والقطاعات الخاصة على بذل الجهود تضافرًا وتحفيزًا للنهوض بهم لتحسين مستواهم المعيشي والحياتي على كل الأصعدة، وأيضًا بغية تطوير المجتمع لكل الفئات العمرية فلا نسقط من حساباتنا هذه الفئة المهمة الآخذة في التنامي وجودًا وعددًا وفقًا للإحصائيات المتاحة التي توصلت إلى حقيقة أن تركيبة السكان على مستوى العالم تشير إلى أن المستقبل سيشهد ارتفاعًا ملحوظًا في متوسط الأعمار وسيتضاعف بنسب متفاوتة بين الدول فيما يربو على مليار ونصف المليار مسن ببلوغ عام ٢٠٥٠م.
وقد يرى البعض أن العناية بالكبار تقع أولًا وأخيرًا على عاتق الأبناء، إن صح هذا في الجانب الرعوي داخل إطار الأسرة والمنزل، إلا أنهم لن يستطيعوا تلبية احتياجاتهم خارجهما؛ فهناك حزمة من الخدمات مطلوبة من الحكومة والمجتمع من ضرورة توفير "حياة كريمة" لهم ومنحهم معاملة خاصة ومميزة داخل المصالح الحكومية والخدمات الصحية وعبر وسائل النقل والإسكان وغير ذلك.
وقد تم الاحتفاء بالكبار هذا العام٢٠٢١م بموضوع مهم للغاية يتمحور حول المساواة الرقمية لجميع الأعمار بمفهوم تمكين المسنين أيضًا مثل غيرهم ممن هم أقل عمرًا من الوصول إلى العالم الرقمي والمشاركة البناءة فيه، وهذا يحتاج إلى ضرورة التوعية بمدى أهمية الإدماج الرقمي لهم. وهو اختيار حالفه التوفيق لما تتطلبه المرحلة الحالية من مواكبة للثورة الرقمية التي أدت إلى تشكل العقل الرقمي والإنسان الرقمي.
فـ"الحياة الرقمية دنيا جديدة وعالم من التفاعلات الرقمية الحرة، والخارجة عن السياجات السلطوية والمسيطرة على الحياة الفعلية. الأجيال الرقمية تشكل الآن قطيعة فى العقل والمعرفة والإدراك، والإبداع، والذائقة والاستهلاك الرقمى وفي حالة تصادم وقطيعة مع العقل السياسي.. من هنا تبدو الفجوة الجيلية فى تمدد وتسارع فائق التغير. من ثم سنري نتائج ذلك فى التطور السياسى فى أوروبا، وأمريكا، وفى آسيا الناهضة حول الصين، واليابان، وكوريا الجنوبية، وسنغافورة..إلخ. بينما ستتفاقم الفجوات الجيلية في عالمنا العربي الكبير . من ثم نحتاج إلى سياسة تعليمية وثقافية مغايرة جذريًا عن السائد عربيًا، وإلى تجديد الطبقات السياسية بالأجيال الجديدة، لأنها لن تسكت إزاء الديكتاتورية الجيلية السائدة. فلنبدأ الآن حيث الثقافة والتعليم والصحة والتقنية والرقمنة هى الحل. «على حد قول كاتبنا نبيل عبدالفتاح فيما تناوله حول الفجوة الجيلية في عالمنا العربي» .
إن الحياة الممتدة للكبار تنطوي على فرص لهم ولعائلاتهم وبطبيعة الحال مجتمعاتهم في تحقيق أهداف خاصة تشتمل على زيادة التعليم لمن حرموا منه في صباهم لأسباب مختلفة وأرادوا استدراكها دون اعتبارات للمرحلة العمرية المتقدمة التي أصبحوا عليها؛ ومنها الاندماج في النشاطات المختلفة شريطة تمتعهم بحالة صحية وعقلية ونفسية وجسمانية تؤهلهم للاندماج في المجتمع واستكمال رحلة العطاء التي تشعرهم بجدوى وجودهم على قيد الحياة، وقيامهم بدور يسد حاجة في المجتمع- مهما كان حجمها- ويبعد عنهم شبح التفكير السلبي في عدم جدوى الحياة وتفضيل الرحيل عن اكتمال الرحلة، ويقعون تحت دائرة مرض الاكتئاب وهو أخطر مشكلة صحية يمكن أن تواجههم، بحسب المختصين، فهو أكثر انتشارًا فى السن المتقدمة يسبب تدهورًا سريعًا فى حالة المسن وصحته العامة يهدد بحدوث اضطرابات عضوية كالجفاف والهزال وهبوط القلب أو الكلى، وذلك لأن المسن المكتئب يهمل طعامه وشرابه، والاكتئاب فى هذه السن بالذات يسبب آلامًا شديدة يشعر بها المريض فى أي مكان فى جسده، فيصرخ المسن أحيانًا كالطفل، ويحتار المحيطون به فى كيفية مساعدته. تزداد شكواه وآلامه أكثر، ولا شيء يهدئ منها، وتتعاظم آلام المسن النفسية عندما يتعرض للنبذ أو الإهمال ممن حوله، فهو فى حاجة دائمًا للاهتمام والحب وأن يستشعر أهمية لوجوده وأن له دورًا يؤديه.
وهذا لا يتأتى إلا بسد الفجوات والحاجات المعرفية المستحدثة لديهم حتى يستطيعوا المضي قدمًا في منظومة التطور الرقمي جنبًا إلى جنب مع أبناء عالم الشبكات العنكبوتية والثورة الرقمية واستيعاب هذا التقدم التكنولوجي المتسارع حتى يندمجوا في المجتمع ويصلوا لصيغة تفاعلية مع كل ما يدور من حولهم.. وهم يستحقون كل ما يتطلبه هذا الأمر من الإدارات السياسية والجهات المعنية.. إنهم درة تاج كل المجتمعات.. أليس كذلك!
- أستاذ العلوم اللغوية بأكاديمية الفنون حاليًا ورئيس قسم الإنتاج الإبداعي سابقًا