28 سبتمبر 1970
ولدتُ فى منزل صغير فى حى شبرا، بناه جدى الذى جاء مهاجرًا من المنوفية إلى القاهرة فى عشرينيات القرن العشرين، مع الأزمة الاقتصادية التى دفعت بموجة هجرة جديدة إلى العاصمة. وفى هذا البيت وُلِدَ أبى فى عام ١٩٣٣ ليمثل الجيل الثانى لعائلتنا فى قاهرة المعز، جيل يختلف إلى حدٍ ما عن الجيل الأول المهاجِر، فهذا الجيل الثانى هو بحق ابن المدينة بقيمها التى تختلف كثيرًا عن قِيم القرية، وأصبحت المدينة هى عالمه وحياته.
فى هذا البيت وُلِدت أنا، الجيل الثالث للعائلة، عائلة من الطبقة الوسطى الصغيرة «صغار الموظفين»، وكان أول ما استرعى انتباه الطفل مجموعة «البراويز» ذات الصور الفوتوغرافية المُعلقة على حوائط المنزل، إن الأسرة تحفظ تاريخها وذاكرتها من خلال هذه الصور، إنه بحق أرشيف العائلة.
ووسط هذه الصور كانت هناك صورتان لشخصين لم يستطع الطفل الصغير التعرف عليهما، وبفضول الطفولة كان السؤال عن ماهية الشخصين. جاءت الإجابة على لسان الأب: «الصورة الكبيرة دى للزعيم جمال عبدالناصر، والصورة الصغيرة اللى جنبها بتاعة الكابتن صالح سليم». هكذا تحددت مسألة الهوية مبكرًا فى منزلنا: الانحياز إلى تجربة عبدالناصر، والانتماء إلى النادى الأهلى.
عودة من جديد إلى هذا التاريخ المهم والمثير فى تاريخ مصر، ٢٨ سبتمبر ١٩٧٠؛ أبى الصيف بحرارته أن يودعنا، وصمم الخريف أن يبدأ بتقلباته، مارس الطفل طقس القيلولة الذى كان يعشقه، لا سيما مع استمرار الموجة الحارة، وفجأة استيقظ الطفل على أصوات عالية من حوله.
الأم: الراديو بيذيع قرآن على طول.. هو فى حاجة؟
يلجأ الأب إلى جهاز التليفزيون، علَّه يجد لديه الإجابة، لكن التليفزيون يذيع تلاوة قرآنية أيضًا.
الأب: واضح إن فيه حاجة كبيرة.. ربنا يستر.
وسرعان ما نعق التليفزيون بالخبر المشئوم؛ إذ أعلن النائب أنور السادات عن خبر وفاة عبدالناصر، وعصفت بالجميع كبارًا وصغارًا حالة من الوجوم، وربما عدم تصديق، أو رفض الواقع، هبط الجد والجدة من الدور الأعلى، وكعادة أهل الريف فى أوقات الأزمات لا بد أن يكون الجميع معًا، وعلى غير العادة يبحث الكبير العليم عن الإجابة عند الصغير؛ إذ توجه جدى بالسؤال إلى أبى: «وبعدين.. إيه اللى هيحصل؟»، لم يملك أبى إجابة، كان ينظر إلى المجهول ثم قال: «مش عارف البلد دى هتروح على فين».
هنا انتبه جدى إلى أمر ما، واندفع يطلب من أبى الذهاب إلى بيت عمتى لإحضار أولادها، فهى وزوجها يؤديان عمرة رجب، إنها «ليلة الإسراء والمعراج»:
- يا ابنى هات ولاد أختك، لازم نتلم كلنا فى البيت، إحنا مش عارفين إيه اللى هيحصل فى البلد.
وذهب والدى إلى منزل أخته، الذى لا يبعد كثيرًا عن منزلنا، وعندما اطمأن الجد على أحفاده أنهم أصبحوا فى بيت العائلة، صعد إلى سكنه فى الدور العلوى، وأخذت الوالدة تربّت على أولادها وأولاد عمتى وتدعوهم إلى الخلود إلى النوم. نظر الوالد إلى أبناء العائلة نظرة تملؤها الشفقة، وربما الحيرة والخوف على المستقبل، وذهب إلى غرفته وفراشه، كانت نظرات والدتى تتبعه حتى غرفته إلى أن أغلق عليه الباب، هنا تحولت أمى إلى أم لزوجها، هى تحاول أن تُدخِلنا إلى عالم النوم والسكينة، ولكنها تريد الاطمئنان على زوجها «ابنها الكبير»:
- بالراحة كده خُش بشويش وشوف أبوك نام ولا لأ.
اندفع الطفل وهو يشعر بأنه فى مهمة رسمية، لأول مرة هو الذى يطمئن على أبيه لا العكس!
تسلل الطفل إلى الغرفة المهيبة- غرفة الوالد- الظلام هو سيد الموقف، يكاد لا يرى شيئًا، يخشى أن يتعثر. وفجأة يسمع نحيبًا، هناك مَن يبكى، هناك مَن يُرَدد اسم عبدالناصر، إنه والده، ما أصعب أن يرى الطفل أباه باكيًا!
حتى الآن لا أدرى هل كان يبكى على ناصر، أم على الحلم، أم على قادم الأيام؟!