حين دخل علينا «القوم»
هكذا كانت ترث «الستات» فى مصر، حين حرص المصريون منذ زمن على حقوقهن، سواء فى الحياة السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، وفى سياق الحقوق لم ينس المصريون حق «الست» فى الملكية والتملك والتصرف فيما تملكه، وحقها فى الميراث.
وسوف نرى معًا عدة أوجه من حقوق «الستات» فى مسألة المواريث.
أولًا: تساوت حقوق «الست» فى الميراث مع الرجل فى كل شىء، وكانت تركة الأب تنقل للورثة الشرعيين، ودائمًا كانت البنات يرثن المنقولات الثمينة، ومنذ عصر الدولة الوسطى «حوالى ٢٠٥٠ إلى ١٧١٠ قبل الميلاد»، أصبح الميراث يُنقل عن طريق الإرث لكل الأبناء دون تفرقة بين الابن الأكبر وبين غيره، كبارًا أو صغارًا، «صبيانًا» أو بنات، وكان «للست» حق الورث حتى فى مال ابنها، مثلما كان للابن أنه يرث فى مال أمه.
ثانيًا: كانت «الست» ترث ثلث الممتلكات المشتركة بينها وبين زوجها، أما الثلثان الباقيان فكان من حقها أن تنتفع بهما مدى حياتها، وهذا مثلما كان من حق الزوج أن يرث ثلث الأموال المشتركة بينه وبين زوجته.. وطبعًا الباقى لأولادهما.
ثالثًا: حرية «الست» فى أموالها، وفى أن تهب ثروتها لمن تشاء «بمزاجها» وبدون أى تدخل من أى أحد. ونجد ذلك فى إحدى الوثائق التى كتبت فيها أم لأبنائها نصيبها من ميراثها عن والديها.
وجاء فى هذه الوثيقة «فى السنة ٥ من عهد (دار)، أن الساقية (تسنن حور) تعترف بحق ابنها الساقى (بادى مِن حوتِب) بكرها، وهى بنت (إنحارو) بنصف كل ممتلكاتها وكل ما تستحقه من والديها والنصف الآخر يؤول لابنتها (وورو) وإذا حدث أن ولِد لها طفل آخر وعاش، فنصيبه من التركة يؤخذ من نصيبهما بالتساوى».
ووقع على الوصية الموثق و٨ شهود.. وهنا نعرف أن الوصية كانت تسجل بشكل رسمى عند الدولة، لأن مصر كانت دولة بمؤسسات راسخة منذ قرون طويلة.
تطوّر العرف والثقافة المصرية بمرور الزمن، وعبر تيارات الهجرات من وإلى ربوع مصر الممتدة، وتأثرت أوضاع النساء وحقوقهن بثقافات لا تعتبر النساء عصبًا وتحط من قدرهن، ومن تلك الحقوق؛ المساواة فى الميراث، فحرّم بعض العائلات- المصريون عائلات كبيرة وليسوا قبائل- التى تأثرت بتلك الثقافات، توريث الأراضى الزراعية للبنات خشية تفتيت وتبديد الملكية بانتقالها لعائلة زوج البنت، بل غالى بعض العائلات بتوريث كل الأراضى الزراعية للابن الأكبر فقط.
ومن جهة أخرى، كثير من العائلات ما زال يسير وفق نهج ثقافى مستمد من العرف والعادات المصرية، وفى هذا السياق تذكرت حكاية كنت أنا أحد أطرافها؛ قريب لنا كبير فى العمر كنت أساعد فى رعايته وأنا صغيرة، وكانت له بنت متزوجة وابن متزوج أيضًا، وله ابن ثانٍ متزوج كذلك، وعرفت أنه ابن زوجته التى ماتت قبله بتسع سنوات، ولكن هذا الابن لم يعرف له أب غير هذا الرجل الذى رباه منذ كان طفلًا فى عامه الأول، وكنا جميعًا نعرف مدى قوة العلاقة بينهما، قبل أن يموت الرجل أعطانى أنا وصيته وأمواله وأوراق أملاكه، وطلب منى تنفيذ المكتوب فى الوصية، والتى قرأتها بعد وفاته فى وجود أولاده الثلاثة، وكان قد قسم أملاكه بالتساوى بينهم، وبعيدًا عما فعله الابن الأوسط، فإن هذا القريب الذى أعطى ابنته مثل أخيها، وأعطى ابن زوجته مثل ابنه، نحن هنا نحتكم إلى العرف والتقاليد والإنسانية المصرية.
والآن نجد تلك «الخناقة» المفتعلة حول نقل الأب ممتلكاته لبناته فى حياته، والتى لا تدخل بالمناسبة تحت منظومة الإرث أو الوصية، لكنها تصرف من مواطن رشيد كامل الأهلية فى ممتلكاته بإرادته الحرة. هنا لا بد أن نسأل ونندهش: من هؤلاء المتداخلون فى حياة الناس بالحجر على تصرفهم فى أموالهم وممتلكاتهم، ويتحدثون باسم الدين؟!
وبعيدًا عن الفتاوى التى تجيز للأب كتابة أملاكه لبناته قبل الوفاة، لضمان حياة مُستقرة لهن دون حرمانهن من حقوقهن والعيش فى أمان بعد وفاته، نجد اعتراض البعض من «الرجال» الذين يستخدمون الدين أيضًا فى تصريحات تمس حياة النساء وحقوقهن التى كفلها الشرع والتشريع.
ما هذا المنطق المريب الذى يفترض أن يعمل الأب طوال حياته ويكافح ويحرم نفسه من ضروريات الحياة أحيانًا كثيرة، ثم إذا مات يأخذ إخوته وغيرهم أمواله لينفقوها على أنفسهم وأولادهم وتُحرم بناته من حقوقهن فى التمتع بخيره، لأنهن غير مرضى عنهن من «قوم» دخلوا علينا ذات حقبة بثقافة تعتبر «الست ناقصة أو فاقدة الأهلية»، وما زالوا يحاولون بكل السبل الحط من قدر النساء وتكدير حياتهن وسلب حقوقهن.
أما حان الوقت ليرحل «القوم» بأعرافهم الصلدة عن وادينا الطيب ويتركونا لثقافتنا المصرية الطيبة.