«الحصوة القاتلة».. قصة خطأ طبي أودى بحياة مزارع في الغربية
في فجر يوم 9 سبتمبر الماضي، كان يخوض المزارع عبد الرحمن بدر، صاحب الـ38 عامًا، وأحد قاطني قرية دار الحمام في مركز بسيون بمحافظة الغربية، عملية جراحية لإزالة حصوة، توفى على إثرها نتيجة خطأ طبي من أحد أطباء المسالك البولية بمستشفى الرحاب، ليخرج أحد أقاربه ويصف ما حدث داخل غرفة العمليات عبر منصات التواصل الاجتماعي، مطالبًا بالحصول على حق المتوفي.
منشور الاستغاثة الذي كتبه كامل جاد الله، انتشر كالنار في الهشيم فور وقوع الحادث، ومن خلاله تواصلت "الدستور" مع صاحبه، ليروي لنا تفاصيل الأزمة، وتدخل نقابة الأطباء بمحافظة الغربية لإيجاد حل فوري يعين العائلة على فقيدها.
تحدث "كامل" عن المتوفي، واصفًا إياه بصاحب البنيان القوي والصحة الجيدة، كونه يعمل مزارعًا برفقة زوجته داخل الأراضي الزراعية على مدار 24 ساعة، ولم يكل أو يمل طيلة حياته في التكاسل عن العمل، أو توفير قوت أبنائه الأربعة: "بنته الكبيرة لسه متكرمة الأولى على المدرسة في الشهادة الإعدادية".
طرح "كامل" سؤالًا غامضًا خلال حديثه مع "الدستور": "هل سنرى ابنته حاصلة على المركز الأول في الشهادة الثانوية؟، أو ستخرج زوجته للعمل وحدها في الأراضي الزراعية"، مشيرًا إلى أن عائل الأسرة قد رحل، وتركهم حائرين لا يعلمون مصيرهم.
قبل ساعات قليلة، أصدرت لجنة من العلاج الحر بمديرية الشئون الصحية بالغربية، قرارًا إداريًا بغلق جناح العمليات، الذي توفى به "بدر"، لوجود نقص في تجهيزات غرف العمليات ولمخالفته شروط مكافحة العدوى، كما تم غلق غرفة الأشعة أيضًا بالمستشفى لانتهاء الترخيص وعدم تجديده.
أوضحت منظمة الصحة العالمية في تقرير لها في عام 2019، أن خمسة أشخاص يفقدون حياتهم كل دقيقة في العالم بسبب الأخطاء الطبية، وهو ما يفوق عدد ضحايا الحروب والكوارث سنويًا، وقدرت جامعة مانشستر في بحث لها أن 6% من المرضى على مستوى العالم يتعرضون للإعاقة أو الموت بسبب أخطاء الأطباء.
حصوة قاتلة
الأزمة لم تكن في معاناة "بدر" من الحصوة المستقرة داخل جسده، بل كانت طرف الخيط الذي سحب روحه إلى خالقها: "البداية كانت بتوجه المتوفي إلى الدكتور أسامة العشري للكشف عن حالته الصحية، وهناك طلب منه الطبيب توفير مبلغ مالي قدره 40 ألف جنيه، لإجراء عملية إزالة الحصوة على مرتين، حتى اضطر للبحث عن مكان آخر يزيل عنه مرضه بمقابل بسيط يستطيع توفيره، نظرًا لظروفه المعيشية الصعبة".
وأردف "كامل" في حديثه: "الطبيب الأخير مشكورًا أبلغه بإجراء العملية مقابل 8 آلاف جنيه فقط، وبالفعل دخل غرفة العمليات يوم الخميس الماضي في تمام الساعة العاشرة والنصف، لكنها كانت محطته الأخيرة في الحياة، فلم نراه بعدها إلا جثة هامدة في صباح اليوم التالي".
كان رأي الطبيب عن إجراء العملية غريبًا من نوعه، حين لم يطلب توفير تحاليل طبية للمريض، وقال للمتوفي: "مينفعش تتعمل تفتيت ولا جراحة، هنشيلها بالمنظار"، ودخل بعدها "بدر" غرفة العمليات، ليخرج الطبيب بعد ساعة واحدة مطالبًا ذويه بسرعة توفير أكياس عدة من الدم والبلازما.
اكتشف ذوو الضحية في تلك اللحظات، الخطأ الطبي الذي تسبب فيه الطبيب، بعد تورطه في قطع الشريان المتصل بالكلى: "كان يجب عليه التواصل مع الجامعة أو الأطقم الجراحية عالية المستوى، لكنه كابر واستمر في طلباته غير المعقولة من تحليل فصيلة دم، والكارثة كانت في عدم توافر غرفة لاستخراج تلك التحاليل في المستشفى، ما جعل ذويه يتجهون سريعًا للخارج باحثين عن معمل تحاليل، في ظل تعرض المتوفي للنزيف الحاد داخل غرفة العمليات".
تعرض أهل "بدر" للاستغلال الواضح حين اضطروا لشراء أكياس دم بلغ مقدار الواحد منها 2000 جنيه، في ظل أن ثمنه الأساسي 200 جنيه فقط، وبعد عودتهم إلى المستشفى، فوجئوا بالوضع المأساوي الذي تعرض له "بدر": "المريض مكنش متخدر كويس، وكان مربوط إيد ورجل في السرير وهما بيركبوله القسطرة".
وصف "كامل" الطبيب الذي أجرى العملية الجراحية للمتوفي، بأنه تكاسل في عمل اللازم، وتعامل مع المريض بمنتهى القسوة والهمجية: "أين ضميره المهني، وما شعور زوجته حين شاهدت زوجته عاريًا من ملابسه فوق سرير العمليات"، وفي تمام الساعة السادسة ونص صباحًا، خرج الطبيب إلى ذوي المريض، باكيًا والدموع تنهال من عينيه، ليقول لهم: "عبد الرحمن مات".
لم يستوعب أحد مدى الكارثة التي طالت الأسرة الفقيرة، لكن الأكثر قسوة حين ذهبوا لاستخراج تقرير الطب الشرعي، ووجدوا السبب حينه أنه توفى إثر السكتة القلبية، ليعلنوا رفضهم التام عن ذلك الأمر المهين، وبعد ذلك تم تعديل التقرير بأيادِ خفية، لتكون النسخة الأخيرة منه سببها الموت إثر هبوط حاد في الدورة الدموية.
لم تكتفِ إدارة المستشفى بذلك، بل طلبت من أهل المتوفي توفير مبلغ مالي قيمته 6 آلاف جنيه مقابل أعمال الغسل، لكن زوجته طالبت بالحصول على جثة المتوفي في أسرع وقت، حتى حضر أحد قاطني القرية إلى المستشفى، ويحمل اسم "عبد الهادي مناع"، بعد أن روى له أحد الأشخاص ملابسات الحادث، وطالب بتشريح الجثة على الفور.
وبالفعل استجاب ذوو المتوفي لحديثه، واتجهوا جميعهم إلى مستشفى المنشاوي من أجل تشريح الجثة، وهناك استقبلهم مأمور قسم ثانِ ورئيس مباحث المركز، والتي كانت مواقفهم حيادية، حسب وصف "كامل"، وأتى أيضًا طبيب البنج الذي كان شاهدًا على الواقعة ليدلي بشهادته أمام الجميع.
وجه "كامل" في ختام حديثه، مناشدة ذوي المتوفي إلى وزيرة الصحة والسكان، بسرعة التحرك لاسترداد الحق الضائع، والوصول إلى حل جذري يقاضي المتورط في الكارثة التي شهدتها إحدى قرى محافظة الغربية.
لن أترك حق المتوفي
على الصعيد الآخر، توجهنا للحديث مع الطبيب صاحب الواقعة، الدكتور خالد حبيب، استشاري جراحة المسالك البولية، والذي أعرب عن رغبته الواسعة في مساندة أهل المتوفي، وتقديم مبلغ مالي ليسنادهم على تخطي ظروفهم المعيشية بعد فقدان عائل الأسرة، منتظرًا أول جلسة ستُعقد بينهما لتقديم ما يقدر عليه من أجل الإنسانية.
كانت تلك القضية هي الأولى من نوعها التي يتعرض لها "حبيب"، وقرر الالتزام بالأمر قانونيًا وإنسانيًا، وبالفعل عمل خلال الأيام القليلة الماضية على تجميع التقارير الطبية للحالة، وقدمها للنيابة العامة من أجل التحقيق في الأمر، وعرضها على المختصين ليوضحوا مدى جاهزية المريض لخوضه العملية الجراحية، التي توفى إثرها.
وأوضح الطبيب أيضًا أن حالات النزيف الناتجة عن عمليات إزالة الحصوة تبلغ نسبتها 20%، بينما تصل حالات النزيف الشديد إلى 7%، والوفاة الناتجة عن هذه العمليات أيضًا تصل نسبتها إلى 2%، حسب الدراسات والتقارير العالمية المتعارف عليها.
واستنكر في نهاية حديثه، تعمده لقتل المتوفي كما روّج البعض عبر منصات التواصل الاجتماعي: "ليس هناك أي عداء بيني وبين ذوي المتوفي، فقد قررت إجراء العملية من البداية كعمل غيري بعد معرفتي بأحواله المادية الصعبة، وبالرغم من تحرك القضية قانونيًا، إلا أنني مازلت ملتزمًا بواجبي الإنساني تجاه أسرته".
جلسة عرفية للوصول إلى حل
ومن جانبه، أوضح الدكتور بهاء توفيق، نقيب أطباء الغربية، أن النقابة تحركت فور الإعلان عن هذا الحادث الذي وقع نتيجة خطأ طبي واضح داخل مستشفى الرحاب، معلنًا عن توفير جميع الحلول الممكنة لذوي المريض، ومساندتهم في تجاوز هذه المحنة، من خلال عقد جلسة عرفية بين أهل المتوفي والطبيب يوم السبت القادم، للاتفاق على حل جذري يعوضهم عن فقيدهم.
"النقابة للمرضى قبل أن تكون للأطباء"، هكذا عبر "بهاء" خلال حديثه مع "الدستور"، عن دور نقابة الأطباء في الحفاظ على أرواح المرضى داخل المستشفيات، موضحًا أن حقوقهم لا يمكن التخاذل عنها، وبالفعل بدأت النقابة في اتخاذ اللازم، والتواصل مع الطبيب وذوي المريض لعقد جلسة بينهما، وعلى الجانب الآخر يتم التحقيق في الأمر من قبل النيابة العامة.
أفادت تقارير وزارة الصحة أن عدد الأخطاء الطبية في مصر سنويًا يصل إلى 180 ألف حالة، عدد قليل منها يصل إلى تقديم شكوى أو يتم نظره أمام القضاء، وحسب تصريحات نقابة الأطباء فإن نحو 20 طبيبًا يتم شطبهم من النقابة سنويًا بسبب الأخطاء الطبية.
وتنص المادة رقم ٢٤٤ من قانون العقوبات على أن عقوبة الخطأ الطبي الجسيم الحبس مدة لا تزيد على سنة وبغرامة لا تتجاوز ٢٠٠ أو ٣٠٠ جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين.