بين عيد الفلاح.. وعيد النيروز
في عيد النيروز؛ أتخيل .. كما لو كان التاريخ رجلاً؛ لأمسك بالعصا ليرقص في أول الأعياد التي ظل المصريون يحتفلون بها على مدار عقود ماضية، هذا العيد الذي يوافق اليوم الأول من شهر"توت" أول أشهر السنة المصرية القديمة، فقد ظلت الاحتفالات بهذا العيد حتى الاحتلال العثماني لمصر سنة 1517، حتى أصبح مقتصرًا على مجموعات إحياء التراث والمهتمة بالتاريخ المصري، كما يغلب عليه أيضًا الطابع المسيحي نظرًا لربط المصري المسيحي القديم العيد بتاريخ الشهداء.
ومع تراجع الاهتمام بالتقويم الفرعوني المصري، يظل التقويم القبطي مستخدمًا لتحديد مناسبات الكنيسة الأرثوذكسية التي امتد نفوذها من الإسكندرية في مصر، إلى بلاد الحبشة.
وكان المصريون يحتفلون به في مطلع «توت»، أول شهر في السنة القبطية، بالتقويم الفرعوني أو المصري، الذي بدأ عام 4241 قبل الميلاد، وهو مطلع السنة 6295 فرعونية/مصرية، والسنة 1734 قبطية.
وقد اكتشف الفلاح المصري بعبقريته وقراءته للأفلاك والنجوم؛ وامتلاكه مياه مجرى نهر النيل العظيم بقيامه بالسيطرة عليه؛ بل تعامل معه وكأنه الثور الذي أمسكه من قرنيه عند فرعي الدلتا؛ وقام بحساب عدد شهور السنة وتقسيمها إلى 12 شهرًا و«شهر صغير» يسمى النسيء، وهي أيام تكمل السنة، وربما كان أصل تسميتها كأنها «نسيت»، وهي بالتحديد 4 أيام من 6 إلى 10 سبتمبر.
وتواترت إلينا عبر السنين أن شهور السنة القبطية تبدأ بتوت، ثم بابه، هاتور، كيهك، طوبة، أمشير، برمهات، برمودة، بشنس، بؤونة، أبيب، مسرى. وتعود أسماؤها إلى الهيروغليفية؛ وأسماء آلهة وأعياد دينية منذ آلاف السنين، تم تحويرها على مدى قرون إلى أن استقرت على هذه الأسماء القبطية:
توت: نسبة إلى الإله المصري توت أو تحوت إله الحكمة والعلم والكتابة وحامي الكتبة.
«اروي ولا تفوت»، أي أن الري ولو كان كثيرًا لا يضر الأرض.
بابة: "أبة" هو الاسم الأصلي للأقصر، وكذلك نسبة إلى عيد أوبت وهو عيد انتقال الإله آمون من معبده في الكرنك إلى معبده في الأقصر. «خش واقفل البوابة»، أي أغلق الأبواب والمنافذ جيدًا استعدادًا للبرد مع قدوم الخريف.
هاتور: نسبة إلى حاتحور (هاتور في القبطية) إلهة العطاء والحب والموسيقى.
أو «أبو الدهب منثور»، أي اصفرار محصول القمح في الحقول مع قرب حصاده.
كيهك: مشتق من التعبير كا- حر- كا أي قرين مع قرين. ومعناه:عيد اجتماع الأرواح عند الفراعنة.
«صباحك مساك شيل إيدك من غداك وحطها في عشاك»، كدليل على قصر النهار في هذا الوقت من السنة.
طوبة: مشتق من الكلمة المصرية القديمة تاعبت وهو أحد الأعياد، «تخلي الشابة كركوبة»، أي من شدة البرد تصبح الصبية وكأنها عجوز، لانحنائها بحثًا عن الدفء.
أمشير: إشارة إلى عيد يرتبط بالإله "مخير" وهو الإله المسئول عن الزوابع، أي أن رياحه العاتية تكاد تمزق الأجساد، وأيضًا «أمشير أبوالزعابيب الكتير ياخد العجوزة ويطير».
برمهات: ربما نسبة إلى عيد يتعلق بالملك أمنحتب «روح الغيط وهات»، أي اذهب إلى الحقل واجمع ثمار المحاصيل.
برمودة: نسبة إلى إله الحصاد (رنودة)، «دق العامودة»، أي تجهيز درس القمح بعد حصاده، وكان ينصب عامود في وسط «جرن» لذلك.
بشنس: نسبة إلى الإله خونسو (خنس في القبطية) إله القمر عند الفراعنة وممثل دور الابن في ثالوث طيبة: «يكنس الأرض كنس»، أي ما بعد الحصاد وخلو الحقول من آثار زراعتها.
بؤونة: نسبة إلى عيد "أنت" أي عيد الوادي وهو العيد الذي ينتقل فيه آمون من شرق النيل إلى غربه، وكانت الذبائح تقدم تكريمًا للراقدين.
أبيب: عيد الإلهة أبيبي عند الفراعنة.
بؤونة: «تنشف الميه من الماعونة»، أي تتبخر المياه من الأواني من شدة الحر، و«بؤونه نقل وتخزين المونة»، «فيه العنب يطيب»، أي شهر حصاد الكروم.
مسرة (مسرى): نسبة إلى مسو- رع أي ولادة رع، شهر اشتهر عند الفلاحين قبل عقود بأن الحمير تتوالد أو تنفق فيه كثيرًا، و«تجري فيه كل ترعة عسرة»، أي تزيد مياه فيضان النيل فتغمر حتى القنوات الصغيرة الجافة طوال العام.
النسيء أو الشهر الصغير، يحتفل بأوزيريس في أول هذه الأيام.
والذي يعنينا في الأمر؛ هو هذا الفلاح المصري الذي استعان بفطرته في استخدام مشاهداته؛ واستخدام هذا التقويم فقط في حياته لارتباطه بالزراعة: من فيضان النيل وجفافه إلى زراعة المحاصيل وحصدها، لكن مع تقدم تقنية الزراعة واستخدام الآلات وتنوع المحاصيل، بدلًا من المحاصيل الحقلية التقليدية، ربما تضاؤل استخدام الشهور القبطية.
والمعروف أن الفلاح المصري لاقى الكثير من المظالم في عهود الإقطاع وسيطرة رأس المال على الحكم في عهد الملكية؛ وقد تناول الشاعر/صلاح جاهين جانبًا من مأساة هذا الفلاح حينذاك .. وقال:
القمح .. مش زي الدهب /القمح زي الفلاحين /عيدان نحيلة جدرها بياكُل في طين /زي إسماعين ومحمدين.. وحسين أبوعويضو إللي قاسى وانضرب/عشان طلب/حفنة سنابل ريَّها كان بالعرق/عرق الجبين/القمح زي حسين يعيش ياكل في طين/أما اللي في القصر الكبير/يلبس حرير/والسنبلة/يبعت رجاله يحصدوها من على/عود الفقير!!
وتداركت الثورة المصرية هذا الغبن الواقع على كاهله؛ فأصدرت قوانين الإصلاح الزراعي؛ وقامت بتمليكه بعض الأفدنة للمساهمة في إصلاح أحواله وأحوال أسرته وخصصت له عيدًا.. الأمر الذي نود الحفاظ عليه وعلى ثرواته التي تخدم الاقتصاد القومي .. وحتى يظل الفلاح المصري علامة مهمة على تحولاتنا التاريخية العظيمة.
- أستاذ اللغويات بأكاديمية الفنون - ورئيس قسم الإنتاج الإبداعي السابق بالأكاديمية