كرة القدم.. السياسة والوطنية «1-3»
كرة القدم.. الساحرة المستديرة.. معشوقة الجماهير، إنها اللعبة الشعبية الأولى فى العالم، بالقطع يُنظَر إليها على أنها سيدة الألعاب الرياضية، ولكن يُنظَر إليها أيضًا، وخاصة مع العولمة، على أنها اقتصاد عابر للحدود والقوميات، خاصة فى زمن الاحتراف.
لكن التطور المهم هو دخول كرة القدم ميدان الدراسات التاريخية والسياسية والأنثروبولوجية، حيث بدأت هذه الدراسات فى كشف النقاب عن الأبعاد السياسية لكرة القدم منذ نشأتها وحتى الآن.
تعود بدايات لعبة كرة القدم إلى القرن التاسع عشر، ودور الإمبراطورية البريطانية- بريطانيا العظمى، الإمبراطورية التى لا تغيب عنها الشمس- فى نشر اللعبة فى كل المستعمرات البريطانية، لكن السؤال الذى يطرح نفسه بشدة، وقد يبدو ساذجًا، لماذا نشأت لعبة كرة القدم أساسًا فى بريطانيا؟
كما يبدو السؤال ساذجًا، ربما تأتى الإجابة السريعة على نفس القدر من التلقائية: «إنها مجرد لعبة نشأت لتسلية الجماهير»، بالقطع هناك قدر لا بأس به من الحقيقة فى هذه الإجابة، لكن لا ينبغى أن تحجب عنا هذه الإجابة الأبعاد الأخرى لظاهرة نشأة كرة القدم.
يشير العديد من الدراسات إلى أهمية مبادئ العصر الفيكتورى البريطانى فى انتشار الرياضة عامة وكرة القدم على وجه الخصوص، كانت النظرة آنذاك أن المشاركة فى الرياضة يمكن أن تسهم فى تطوير الأخلاق المسيحية، وكان يعتقد أن مبادئ الفرق الرياضية يمكن أن تسهم فى «تنمية الرجل المثالى للمسيحية القوية».
بدأ تطبيق هذه المبادئ أولًا على مستوى المدارس، حيث انتشرت كرة القدم انتشارًا سريعًا، ويشير مؤرخو التاريخ الاقتصادى البريطانى فى القرن التاسع عشر إلى ظاهرة مهمة فى هذا الصدد، إذ ازداد القلق مع تطور الثورة الصناعية فى بريطانيا من تفشى ظاهرة عمالة الأطفال، حيث لعبت المصانع دورًا فى جذب الأطفال، مما اعتبر تعديًا على طفولتهم، وفى الوقت نفسه بابًا خلفيًا للتسرب من التعليم والمدارس، لذلك قرر البرلمان الإنجليزى فى ذلك الوقت تطبيق التعليم الإلزامى للأطفال. كما تم التوسع فى لعبة كرة القدم فى المدارس، فى محاولة لجذب هؤلاء الأطفال إلى التعليم، وعدم تسربهم من المدارس، حتى أصبحت ممارسة كرة القدم من الأمور الإلزامية فى المدارس، ونظمت المسابقات المحلية لها.
ومن المدارس انتقلت رياضة كرة القدم بالتبعية إلى الجامعات البريطانية، حيث أصبحت كرة القدم، وأيضًا الرجبى، من الرياضات المفضلة فى الجامعات البريطانية الفيكتورية الكبرى، وأجريت المسابقات القومية بين هذه الجامعات، وكانت جامعة كامبريدج تأتى فى المقدمة.
ومع انتهاء دراسة هؤلاء فى المدارس والجامعات، التحق بعضهم بالجيش البريطانى، وهكذا انتقلت اللعبة إلى داخل صفوف الجيش، وتم التشجيع على ممارسة الرياضة بشكل عام، وكرة القدم على وجه الخصوص، كلعبة جماعية تساعد على تقوية الصحة البدنية وتنمية الروح الرياضية، فضلًا عن التدريب على العمل الجماعى، وأصبحت كرة القدم اللعبة الشعبية الأولى داخل الجيش البريطانى، ودفع ذلك إلى إنشاء مكتب خاص فى الجيش للتخطيط لبطولات كرة القدم.
ومن ناحية أخرى، أدت الثورة الصناعية إلى توحش الرأسمالية وبالتالى ظهور نضال الطبقة العاملة فى محاولة لتهذيب هذه الرأسمالية، والكفاح من أجل حقوق العمال. من هنا لجأت الرأسمالية البريطانية إلى لعبة كرة القدم لمواجهة تذمر العمال وظاهرة الإضرابات العمالية. ويشرح ذلك جيدًا «ميشيل فوكو» كيف استخدمت اللعبة الجماعية كوسيلة لإخضاع «الجسد المنفلت» وتحوله إلى «جسد منضبط»، إذ خفضت المصانع ساعات العمل يوم السبت إلى نصف يوم، على أن يمارس العمال كرة القدم فى النصف الآخر من اليوم فى الملاعب الملحقة بمصانعهم، وهكذا ظهرت الأندية العمالية التى ستلعب دورًا مهمًا فى تاريخ كرة القدم مثل فريق مصنع ولتش أرسنال للأسلحة، وهو أقدم نادى مهنى فى العالم، وما زال يلعب حتى الآن باسم «مانشستر يونايتد»، وسيتم تنظيم دورى المصانع، وستنتشر هذه الظاهرة فى شتى أنحاء المعمورة.