رغم أنوفكم سأخرج.. أهالي «أسرى جلبوع» يروون لـ «الدستور» قصص الهروب المشرف

قرب الساعة الثانية صباحًا، يوم الإثنين الماضي، فرّت ستة أحلام من داخل زنزانة صغيرة بمعتقل «جلبوع» الإسرائيلي، لم ترى أمامها سوى شعاع مضئ في نهاية نفق كبير، استغرق حفره شهور عدة، وامتدت مساحته لعشرات الأمتار، لكنه كان طوق النجاة الوحيد لرجال أُسروا عشرات الأعوام، وقادهم الأمل إلى الجنون.

المستحيل لم يكن موجودًا في قاموسهم، أصروا على تنفيذ خطتهم رغم المصاعب، ونجحوا في نهاية المطاف بالهروب بعيدًا عن أسوار السجن الصهيوني، ليجعلوا خبر فرارهم يطوف العالم، ويتعجب منه أصحاب الحيل، ليتسائل الجميع في آنِ واحد: "كيف نفذوا الحفر دون علم السجانين في واحد من أكثر السجون أمنًا؟".

«محمود قضى 28 عامًا من التعذيب والظلم داخل المعتقل الأسوء على الإطلاق»، ذلك ما أعرب عنه عبد العزيز عارضة، أحد أقارب الأسير محمود عارضة من الدرجة الأولى، حين سألناه عن الأجواء داخل سجن «جلبوع»، كونه اعتقل من قبل برفقته عام 2005، ولم يسمع عنه شيء منذ خروجه من المعتقل حتى استقبل مؤخرًا خبر هروبه.

 في تمام الساعة الثالثة والنصف صباحًا من يوم الهروب، أعلنت مصلحة السجون الإسرائيلية عن فقدان 6 أسرى بعد إحصاء طارئ للسجناء فور استقبال بلاغ من قبل أحد المارة في الشارع حول ملاحظته لمشبوهين بالقرب من السجن.

ذلك المشهد الغريب من نوعه قادنا للحديث مع أهالي الأسرى الهاربين من سجن «جلبوع»، ليرووا لنا قصص كفاحهم في الانتفاضة ضد الاحتلال الصهيوني، والدور الذي قاموا به قبل أن يتم أسّرهم، حتى اللحظة الحاسمة التي فوجئوا بها فور الإعلان عن فرار أبنائهم عبر النفق المحفور.

سوف أخرج رغم أنوفكم
حاولنا كثيرًا منذ الإعلان عن هروب الأسرى الفلسطينيين الوصول إلى ذويهم والاطلاع على قصصهم، لكن واجهتنا صعوبات عدة في الساعات القليلة الماضية، حين وجدنا أكثر من 30 اسم يحملون جميعهم لقب «عارضة»، منهم من يقطن في الأردن، ومنهم أيضًا من يحمل اسم العائلة فقط، ولا تجمعه علاقة شخصية بالمذكور.

وبعد ساعات من البحث، تواصلنا مع «عبد العزيز»، بعد أن قادنا أحد أقاربه إلى حسابه الشخصي عبر موقع «فيسبوك»، واطلعنا من خلاله على قصتي «محمود ومحمد عارضة»، الذين أشعلوا مواقع التواصل الاجتماعي بين ليلة وضحاها، بتنفيذهم لفكرة الهروب المقشعرة للأبدان.

القصة التي أخبرنا بها عن الأسير الهارب «محمود عارضة»، صاحب الـ46 عامًا، وأحد قاطني بلدة عرابة قضاء جنين، كانت ممتلئة بالتفاصيل والأحداث المثيرة، كما وصفها «عبد العزيز» خلال حديثه معنا، قائلًا: «محمود له قصة تصلح أن يؤلف بها كتاب».

في عام 1990، كان يبلغ «محمود» من العمر 15 عامًا فقط، وعمل في ذلك الوقت مع مجموعات المقاومة بالانتفاضة الأولى، حين تم اعتقاله، وحُكم عليه بالسجن لمدة أربع سنوات، وودع معتقله الأول عام 1996 بعد إنهاء فترة الحكم.

لم يكن خروج «عارضة» هينًا في ذلك الوقت، فقد قتل ضابط صهيوني بعد أسبوع واحد من إطلاق سراحه، ليعود مرة أخرى إلى المحاكمة على تهمته، وكان «عبد العزيز» حاضرًا معه هذه الجلسة، التي شهدت انتفاضة كلامية بين القاضي والسجان.

تعرفت زوجة الضابط عليه في القاعة، وحُكم عليه بالسجن المؤبد مرتين، ليخرج «عارضة» حينها عن السيطرة تمامًا: « لف الكلبشات اللي مقيد فيها على رقبتها وحاول يقتلها بالمحكمة».

حاول القاضي تهدئة الموقف بتقديم عرض إليه، وطلب منه أن يقدم اعتذارًا للشعب الإسرائيلي مقابل تخفيف الحكم، لكنه رد «عارضة» كان مفاجئًا للجميع:« رفض وحكالهم لازم هم يعتذروا للشعب الفلسطيني، وما يقدر الله يكون».

«سوف أخرج رغم أنوفكم»، تلك كانت الرسالة الأخيرة التي وجهها «عارضة» قبل الخروج من المحكمة والتوجه إلى مقر اعتقاله بسجن «جلبوع»، وبالفعل صدق في قوله لكن بعد مرور 28 عامًا.

وأردف في حديثه لـ«الدستور»:  « التقيت به بالسجن سنة ٢٠٠٥، وما كان يحدث وقتها من الصعب وصفه، فالأسرى خلال الـ٢٤ ساعة  كأنهم يقفون على جمر، واليوم يبدأ بدخول قوات الشرطة لأقسام المحتجزين، ومن يجدونه غير واقفًا على قدميه يضعونه داخل زنزانة انفرادية لمدة شهر، ويفرضون عليه غرامة مالية يدفعها ذوي الأسير من خارج السجن».

تحدث أيضًا عن عمليات التعذيب الممنهجة: «كانوا يستغلون ارتكاب السجناء لأي موقف حتى يطلقون علينا كلابهم، وينقضوا علينا ضربًا باستخدام الأسلحة».

عبر «عبد العزيز» خُلق الفلسطيني الحر حاليًا: « محمود حافظ للقرآن الكريم، وحافظ أكثر من عشر آلاف حديث نبوي، فهو كان مطلع دائمًا على الدين والثقافة، ويتسم أيضًا بالأناقة لكنه كان يدافع باستماتة عن أرضه ووطنه دون ترك أي حق».

لم يكن «محمود ومحمد عارضة» أخوان كما ادعى البعض على منصات التواصل الاجتماعي، فهم أولاد عم، جمعتهما الانتفاضة ضد الاحتلال الصهيوني كأي فلسطيني حر يدافع عن بلاده، وجمعهما المعتقل مرة أخرى، وفي النهاية خرجا سويًا عبر «نفق الحرية».

وسجن «جلبوع» من أكثر السجون الإسرائيلية تحصينًا وأحدثها على الإطلاق، فقد تم تأسيسه عام 2004 لاعتقال من تعتبرهم إسرائيل الأسرى الأكثر خطورة، وضم أكثر من 4500 معتقل، كان من ستة رجال أرادوا أن يكونوا أحرارًا، وبالفعل بدأوا في حفر أرض زنزانتهم بالملاعق، ونفذوا خطتهم التي لم نراها من قبل سوى في الأعمال الدرامية.

وبعد ساعات قليلة من الإعلان عن الحدث الأبرز حول العالم، انطلقت الأفراح والاحتفالات في شوارع القدس، وتوزيع الحلوى على المارة بعد نجاح الأسرى الفلسطينيين في انتزاع حريتهم من أيدي البطش الصهيوني.

مشاعر متضاربة

لم يدرك «عبد العزيز» أي معلومة عن خطة هروب الأسرى وقت تواجده بسجن «جلبوع»، واتضح أن الفكرة لم تراود ذهنهم في ذلك الحين، كونها كانت فترة بعيدة للغاية عن وقتنا هذا: «اتفاجئنا كلنا بخبر هروبهم ولحد دلوقتي مش مصدقين عملوها ازاي».

الليلة الماضية شهدت تجمعًا عائليًا كبيرًا داخل منزل «عارضة»، احتفالًا بنجاحهم في الفرار من المعتقل الصهيوني، وخوفًا على مصيرهم خلال الأيام المقبلة، وما يتعرضون له حاليًا دون الوصول إلى أي معلومة عنهم: «مشاعرنا متخبطة داخل الأسرة، والجميع يترقب ما سيحدث».

 

تعرفنا من خلاله بعد ذلك على شخصية « محمد عارضة»، صاحب الـ39 عامًا، والحاصل على شهادة ماجستير علوم سياسية: « محمد كان مقاوم بانتفاضة الأقصى، اعتقل سنة ٢٠٠٢، ومحكوم عليه مدى الحياة لإنه متهم بقتل ثلاث صهاينة».

كان يبلغ «محمد» من العمر 20 عامًا فقط، حين أُسر بواسطة الجيش الصهيوني، ووُضع داخل سجن «جلبوع»، الذي لم يغادره إلا في الساعات الماضية، ويأمل ذويه في الاطمئنان على حاله بعد أن انقطع التواصل معه منذ سنوات عدة، منتظرين حاليًا أي معلومة عن إينهم المناضل.

وفقًا لوسائل الإعلام العبرية، ونادي الأسير الفلسطيني فالأسرى الست هم، محمود عبدالله عارضة، وهو معتقل منذ عام 1996، ومحمد قاسم عارضة، معتقل منذ عام 2002، ويعقوب محمود قادري، معتقل منذ عام 2003، وأيهم نايف كمامجي، معتقل منذ عام 2006، وزكريا زبيدي، معتقل منذ عام 2019، وأخيرًا يعقوب انفيعات، معتقل منذ عام 2019.

أين أخي؟

القصة التالية كانت عن الأسير الهارب، «يعقوب انفيعات»، الذي اُعتقل قبل عام ونصف من وقتنا الحالي، وكانت قضيتة في البداية مُصنفة إداريًا فقط، قضى فترتها لمدة 6 أشهر، وتحولت بعد ذلك لقضية جنائية، تجول على إثرها في المحاكم بما يقارب كل شهر، مستقرًا داخل سجن «جلبوع».

وينتظر «نضال» شقيق الفلسطيني «انفيعات» أي خبر يطمئنه على أخيه الذي عبر النفق الشهير، وواجه خطر الوقوع في فخ الصهاينة، معتمدًا على آماله في الهروب من الوضع المأسوي الذي عاشه وخاف أن يستمر فيه كما حدث مع البقية طوال السنوات الماضية.

استنكر أيضًا أي تواصل من الجهات المسؤولة معه حول قضية أخيه منذ إعلان خبر خروبه، سواء الصليب الأحمر والمنظمات الحقوقية المسؤولة عن الأسرى الفلسطينيين: «أكيد شئ يضايق لكن أملنا في الشعب الفلسطيني إنه يدعمنا ويقف جنبك لحد ما نطمن على أخويا».

واصل «نضال» حديثه: «مشاعرنا في المنزل ممزوجة بالفرح لنجاح أخي في هروبه من خطر المعتقل، والقلق من مصيره والذئاب الصهيونية التي تلاحق في كل مكان، ونشعر أنهم سينقضون على منزلنا في أي لحظة باحثين عنه، وأخاف من تعرضهم لوالدتي بأي إهانة خلال فترة تواجدهم».