كيف تنجو إسرائيل من التحدى الصعب بين أمريكا والصين؟
فى كتاب بعنوان «اللعبة الطويلة: استراتيجية الصين الكبرى»، حذر راش دوشى، أحد المستشارين السياسيين لإدارة الرئيس الأمريكى جو بايدن والخبير فى الشئون الصينية، من خطة بكين لتحقيق التفوق على الولايات المتحدة خلال العقود الثلاثة المقبلة، لذا تضع الإدارة الأمريكية الحالية مسألة مواجهة الصين على رأس أولوياتها. وإذا كانت إسرائيل هى الحليف الأهم للولايات المتحدة فى الشرق الأسط، فإنها، بعد سنوات من التقارب الاقتصادى من العملاق الصينى، خاصة فى عهد رئيس الوزراء السابق، بنيامين نتنياهو، وجدت نفسها محاصرة بين قوتين عظميين، وتبحث حاليًا عن تحقيق التوازن بما يضمن استمرار علاقتها الاستراتيجية بواشنطن، مع الاستفادة بالمزايا الاقتصادية التى يحققها التمدد الصينى فى المنطقة، وهو ما نستعرضه فى السطور التالية.
استثمارات بكين فى الشرق الأوسط وتدخلها فى القضية الفلسطينية عكَّرا علاقات واشنطن وتل أبيب
فى عام ٢٠٢٠، زار وزير الخارجية الصينى، وانغ يى، منطقة الشرق الأوسط مرتين، تناول فيهما ٣ موضوعات رئيسية، أولها: نشر اللقاح الصينى ضد وباء كورونا، وثانيها: المشروعات والاستثمارات الصينية فى إطار مبادرة «الحزام والطريق»، وثالثها: النزاع الإسرائيلى- الفلسطينى.
وأوضحت تلك الموضوعات طبيعة الاستراتيجية الصينية الجديدة تجاه الشرق الأوسط، فمع بدء إنتاج اللقاح الصينى ضد فيروس كورونا المستجد عملت الصين على الاستفادة من فترة الوباء اقتصاديًا وسياسيًا، ودعمت إنتاج اللقاح محليًا فى بعض دول المنطقة، كما عملت على ضخ الاستثمارات الصينية فى إطار مبادرة «الحزام والطريق»، المدعومة من قيادتها السياسية، لتدشن بذلك رؤية استراتيجية واضحة لإجمالى مشروعاتها فى أنحاء الشرق الأوسط، لخلق عالم جديد متعدد الأقطاب.
ودعمت الصين تلك المشروعات بالوعد باستثمارات مستقبلية تقدر بنحو ٧٥٠ مليار دولار، ما فتح شهية معظم الدول النامية للانضمام إلى المبادرة، ومن بينها ١٧ دولة فى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، الأمر الذى يهدد بإزاحة الولايات المتحدة عن عرض الهيمنة على المنطقة، وفى العالم أجمع.
على جانب آخر، اهتمت الصين بمسألة النزاع الإسرائيلى- الفلسطينى، الذى اعتادت مناقشته فى منتديات دولية مختلفة وفى لقاءات مع زعماء الدول العربية، مؤكدة أن القضية الفلسطينية مركزية بالنسبة للشرق الأوسط، وأن حلها سيؤدى لإحلال السلام والأمن فى المنطقة.
فى تلك الفترة، وفى مارس ٢٠٢٠، كان الحديث يدور حول مبادرة الرئيس الأمريكى السابق، دونالد ترامب، لحل القضية الفلسطينية، عبر ما عرف إعلاميًا باسم «صفقة القرن»، فيما تحدثت الصين عن خطة للسلام، وطرحت أفكارًا لتطبيق «حل الدولتين»، مع تحسين صلاحيات السلطة الفلسطينية، ودعم وحدة التنظيمات الفلسطينية، وتشجيع استئناف محادثات السلام.
وفى مايو الماضى، أثناء المواجهة العسكرية بين إسرائيل و«حماس»، تغيرت السياسة الصينية، وتبنت فى مجلس الأمن قرارات تندد بإسرائيل، وهو ما وصفه المراقبون فى إسرائيل والولايات المتحدة بأنه محاولة من بكين لإعلان نفسها دولة عظمى مسئولة وقادرة على لعب دور فى قضايا عالمية، والقيام بوساطة فى حل الصراع فى الشرق الأوسط، فى مناكفة واضحة للرؤية الأمريكية.
وبتلك الخطوات، وفى ميدانى الاقتصاد والسياسة، نجحت بكين فى إثارة قلق واشنطن تجاه تحركاتها فى الشرق الأوسط، وواجهت إسرائيل، التى حاولت الاستفادة من المشروعات الاقتصادية الصينية، تحديًا جديدًا، وضعها فى خانة الاختيار بين أمريكا وإسرائيل.
حد أدنى من العلاقات مع «التنين».. خطة بينيت لتجنب الأزمات مع إدارة بايدن
زيادة النشاط الصينى فى إسرائيل نتج عن سياسات بنيامين نتنياهو، الذى عمل لمدة ١٢ عامًا على تعميق العلاقات بين تل أبيب وبكين، وشجّع، للمرة الأولى، دخول الصين إلى السوق الإسرائيلية، وماطل فى الاستجابة لرسائل إدارة الرئيس الأمريكى السابق، دونالد ترامب، بشأن ضرورة تقييد الأنشطة الصينية، رغم العلاقات الجيدة بينهما.
ولم يقتصر التواجد الصينى فى إسرائيل على مشروعات عامة، بل تسلله إلى مجالات أخرى، من بينها خطة افتتاح فرع للجامعة الصينية فى إسرائيل فى أكتوبر المقبل، مع تنظيم الزيارات التعليمية للطلاب الإسرائيليين إلى الصين.
وبعد رحيل «ترامب» و«نتنياهو»، لم تخف الإدارة الأمريكية الجديدة قلقها الزائد من التقارب الإسرائيلى الصينى، وهو ما عبّر عنه صراحة رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية «CIA»، وليام بيرنز، أثناء لقائه رئيس الحكومة الإسرائيلية، نفتالى بينيت، فى أوائل أغسطس الماضى.
وخلال اللقاء، أعرب «بيرنز» عن قلق واشنطن من التوغل الصينى إلى المرافق الاقتصادية الإسرائيلية، خاصة فى المجال التكنولوجى، ومشروعات البنية التحتية، وعلى رأسها الاستثمارات الصينية فى ميناء حيفا.
وإذا كان التقارب بين الصين وإسرائيل قد أثار استياء واشنطن فى عهد «ترامب»، فقد أصبح الموضوع الآن أكثر حساسية فى ضوء زيادة التوترات بين الولايات المتحدة والصين، ففى يوليو الماضى اتهمت الإدارة الأمريكية رسميًا، وزارة الأمن الداخلى الصينية بشن هجوم سيبرانى على شركة «مايكروسوفت»، ووصفت العمل الصينى بأنه يشكل «تهديدًا حقيقيًا لأمن أمريكا وحلفائها».
وأصدر وزير الدفاع الأمريكى، لويد أوستن، توجيهًا اعتبر فيه بكين «أكبر تحدٍّ تواجهه الولايات المتحدة»، كما دعا الرئيس جو بايدن، خلال اجتماعه بزعماء أوروبا، إلى قيام جبهة موحدة فى مواجهة الصين، الأمر الذى وضع الحكومة الإسرائيلية الحالية، بقيادة نفتالى بينيت، فى مأزق حقيقى.
ففى إسرائيل، ينظرون للتحركات الصينية فى الملف الفلسطينى دون قلق، فهناك قناعة لدى تل أبيب بأن الصين تكتفى بالدعم الرمزى فقط، دون خطوات على الأرض تثير المخاوف.
كما أن إسرائيل ترى أن دعم الصين طرفًا واحدًا من معادلة النزاع الإسرائيلى-الفلسطينى لا يجعلها وسيطًا نزيهًا فى أى اتصالات مستقبلية بين الطرفين، لذا قررت تجاهل ما تفعله بكين فى هذه القضية تمامًا، مع العمل على الفصل بين التعاون الاقتصادى والخلافات السياسية.
ووفقًا لتلك السياسة، لا يعترض الإسرائيليون على مواصلة الصين دعمها إيران والفلسطينيين دون المس بشكل واضح بالعلاقات الاقتصادية بينها وإسرائيل، كما أن بكين لا تعترض على الطبيعة الخاصة للعلاقة بين تل أبيب وواشنطن.
التحدى الحقيقى فى هذا الإطار، كما يرى المراقبون، لا يكمن فى دعم الصين الفلسطينيين، لكن فى زيادة العداء بين بكين وواشنطن، الأمر الذى قد يدفع إسرائيل، على غير إرادتها، إلى خط المواجهة بين القوتين، ويثير صعوبات متعددة فى علاقات إسرائيل معهما، ولمواجهة ذلك، تُحاول حكومة «بينيت» حاليًا تهدئة وتيرة علاقتها بالصين، لذا لم تجر أى اتصالات رفيعة المستوى مع بكين فى الفترة الأخيرة.
ويتوقع كثير من المراقبين أن تستمر حكومة «بينيت» فى سياسة الحفاظ على الحد الأدنى من العلاقات مع الصين، لتجنب إثارة أى أزمات مع إدارة «بايدن»، كما يؤكدون أن الصين ستتفهم ذلك، ولن تضع إسرائيل فى اختيار صعب، لإدراكها أن تل أبيب إذا خُيِّرت فإنها بالتأكيد ستختار صف الولايات المتحدة.