المفكر التونسى محمد الحدّاد: الإسلام السياسى اختطف الدين ووظفه لحشد الجماهير (حوار)
يمتلك المفكر التونسى محمد الحدّاد مشروعًا لافتًا فى مجال الإصلاح الدينى، بدأه منذ ما يقرب من ربع قرن، وأفاد فيه من المتغيرات التى لحقت بالعالم منذ تسعينيات القرن الماضى وصولًا إلى اللحظة الراهنة، التى ما زالت تُنتج الأسئلة ذاتها، لا سيّما مع النضال المستمر لشعوب وحكومات عربية ضد أيديولوجيا الإسلام السياسى، وما خلّفته من انتكاسات اجتماعية وسياسية وثقافية.
حصل الحدّاد على الدكتوراه فى دراسات العالم العربى والإسلامى من جامعة السوربون بباريس، بإشراف المفكر الجزائرى البارز محمد أركون، وعمل أستاذًا لكرسى اليونسكو للدراسات المقارنة للأديان من ٢٠٠٤ إلى ٢٠١٦، وخبيرًا فى شبكة اليونسكو العالمية لحوار الثقافات والأديان، كما نال جائزة «ابن خلدون- سنغور» للترجمة فى العلوم الإنسانية.
نشر الكاتب التونسى عددًا من المؤلفات المهمة، منها: «الدولة العالقة.. مأزق المواطنة والحكم المدنى»، و«التنوير والثورة»، و«ديانة الضمير الفرد»»، و«فى آليات الاجتهاد الإصلاحى وحدوده»، و«الإسلام فى العصر الحديث: نزوات العنف واستراتيجيات الإصلاح»، و«حفريات تأويلية فى الخطاب الإصلاحى العربى».
«الدستور» حاورت الحدّاد حول بعض المسائل التى طرحها فى مؤلفاته حول قضية الإصلاح الدينى، والتحديات التى فرضتها القضية الدينية على الدول العربية على مدار التاريخ وصولًا إلى اللحظة الراهنة.
■ فى مشروعك لقراءة الخطاب الإصلاحى العربى كان لك موقف مناهض للخطاب العلمانى المتكئ على حداثة نخبوية كانت مفهومة فى سياق ثقافى وسياسى مضى لكنها حاليًا لم تعد مقبولة.. ما سبب استمرار ذلك الخطاب بكل علّاته الماضية لدى قطاعات واسعة من المثقفين فى الوقت الراهن برأيك؟
- التاريخ العلمى الذى كتبتُ فيه العديد من الكتب الأكاديمية يقسّم العصر الحديث إلى ثلاث مراحل، المرحلة الأولى تبدأ من القرن التاسع عشر إلى الثلث الأول من القرن العشرين، وهو العصر الجدير باسم النهضة. والمرحلة الثانية من بداية الثلث الثانى من القرن العشرين إلى آخر الثمانينيات من هذا القرن مع سقوط حائط برلين وبداية النظام العالمى الجديد، والمرحلة الثالثة هى التى تتواصل إلى يومنا هذا.
إذن، أنا أميّز بين ثلاث موجات من العلمانية، الموجة الأولى هى المرتبطة بالمرحلة الأولى، كانت جريئة وشجاعة لكنها كانت أيضًا متفاعلة مع محيطها الثقافى والاجتماعى وتسعى إلى التفاعل مع مشروع الإصلاح الدينى، ومنفتحة على المحاولات من الضفة المقابلة التى ترمى إلى تقديم اجتهادات دينية وتنويرية تقطع مع ثقافة الانحطاط وعقلية الانغلاق والتكفير.
فى المرحلة الثانية، تراجع الخطاب الإصلاحى وأخذ مكانه الخطاب الأصولى أو الإخوانى، نسبة إلى الإخوان الذين كانوا أهم فصيل فيه، فقطع كل علاقة مع العلمانية، الغربية والعربية، وأصبح يتهمها بالكفر والإلحاد. وردّ عليه الخطاب العلمانى العربى بأن تطرّف فى موقفه من الدين، وأصبح يرفض كل فكرة لتطوير التأويل الدينى ويرى النموذج الفاضل فى الثورات الثقافية العنيفة والدموية التى حصلت فى الاتحاد السوفيتى والصين وألبانيا، مع فارق أن العلمانية العربية كانت ضعيفة ونخبوية وليس لها حكومات تسندها، فارتدّ العنف ضدّها.
فى المرحلة السابقة مُنع العديد من الكتب لعلى عبدالرازق وطه حسين وطاهر الحداد وغيرهم، لكن لم يقتل أى واحد منهم، أما فى المرحلة الثانية ظهرت ظاهرة اغتيال المثقفين أو محاولة اغتيالهم. لذلك أصبحت المعركة غير متكافئة بين علمانية نخبوية مقطوعة عن بيئتها وثقافتها وأصولية مزدهرة خطفت الإسلام وأصبحت توظفه لتحشيد الجماهير لصالح مشروعها السياسى.
كان يفترض على الأقل مع بداية المرحلة الثالثة من العصر الحديث فى التسعينيات أن يستخلص العلمانيون الدرس، وقد فعل ذلك البعض منهم، لكن وكما ذكرت أنت فى سؤالك، ظلّ خطابهم فى الغالب على علّاته، بما فتح الطريق واسعًا للأصوليين ليستكملوا حرب استقطاب الشرائح الشعبية.
ولما اندلعت الثورات العربية، كانت تلك الحرب متقدمة فصدّق قطاع من الشعب أنهم يمثلون الإسلام والوطنية والصدق والأمانة، وأنهم سيحوّلون بلداننا إلى جنة على الأرض. لكن الشعوب أدركت منذ الأشهر الأولى من حكم الإخوان فى كل مكان أنها وقعت ضحية خدعة كبرى، فبدأت حركة مضادة شعبية وليست نخبوية للتخلص من استبداد الأصولية بالعقول والأوطان. وليست النخبة المثقفة هى التى حرّرت وعى الشعوب بل التجربة الميدانية التى خاضتها تلك الشعوب هى التى سمحت لها باستخلاص الدروس والعبر.
■ إلام تعزو هذا الانتشار الذى حظى به الخطاب الأصولى على مدار عقود فى مقابل خفوت تأثير الاجتهادات التأويلية والرؤى الدينية المستنيرة؟
- قبل القرن التاسع عشر، كانت هناك مؤسسات دينية واضحة المعالم هى التى تحتكر القول والسلوك الدينيين، وهى أساسًا المؤسسات التعليمية العريقة مثل الأزهر فى مصر، والزيتونة فى تونس من جهة، والطرق الصوفية من جهة أخرى. الأولى كان تؤثر فى البيئات الحضرية وفى النخبة، والثانية فى البيئات الريفية والطبقات الشعبية وكان هناك تكامل بينهما.
لكن بعد الانفتاح على العالم الحديث بدأ دور تلك المؤسسات يتراجع بشكل مستمر وحاد وسريع، لأنها لم تكن مهيأة للتعامل مع العالم الحديث، ولا تملك أدوات فهمه، الأفكار السائدة فيها قديمة وغير قابلة لمنافسة فتوحات العلوم الحديثة التى شملت كل مجالات حياة الإنسان من الطب إلى التاريخ، وكذلك نشأة المدارس والجامعات على النمط الحديث مثّل ضربة قاصمة لتلك المؤسسات. من جهة أخرى، واجهت تلك المؤسسات نقدًا عنيفًا من الحركة الإصلاحية الناشئة كما يتضح مثلًا من خلال انتقادات محمد عبده للتعليم الأزهرى أو الطاهر الحداد للتعليم الزيتونى، وربما كان ذلك النقد مبالغا فيه أحيانًا.
كان البعض يتصوّر أن حركة التقدم إلى الأمام ستتواصل دون رجعة وأن انحسار دور المؤسسات التقليدية سيحصل لفائدة الحداثة، لكن هذا التوقع كان خاطئًا. فقد استفادت من ذلك الانحسار الحركات الأصولية أو ما نسميه اليوم الإسلام السياسى لأنها نافست تلك المؤسسات فى نفس ميدانها، أى الميدان الدينى، وعملت على أن تأخذ مكانها فى نفوس الشباب خاصة، وتصبح فى نظرهم البديل والوريث الشرعى لتلك المؤسسات.
إذن، السبب، كما ترين، واضح. بما أن الموضوع الدينى كان فى السابق حكرًا على المؤسسات الدينية التقليدية، وأن هذا الاحتكار قد انهار، وبما أن دول الاستقلال لم تعمل بصفة جدية، لا على تطوير تلك المؤسسات لتجعلها قادرة على مواجهة تحديات العالم الحديث ولا على تشجيع خطاب إصلاح دينى، داخل تلك المؤسسات أو خارجها، ليواصل إدارة الرأسمال الرمزى الذى يمثله الدين فى المجتمع، فإن الإسلام السياسى ظل يلعب وحده فى الميدان وتحت يده الآلاف من المساجد مفتوحة لترويج خطبه وشعاراته وأموال الزكاة والصدقات، فضلًا عن أن عائدات النفط متوافرة لخدمة أغراضه، فجاءت النتيجة كما ذكرنا، مؤسسات العالم الإسلامى لم تتطور ذاتيا، ربما تحاول اليوم استدراك ما فات، لكن الهوة شاسعة فهناك قرنان من الجمود يضافان إلى قرون سابقة من الانحطاط.
■ إذن فقد قادت هذه الوقائع إلى نكوص عن أفكار عصر النهضة ومكتسباتها استمر حتى اليوم؟.
-التاريخ الثقافى العربى الحديث يشوبه الكثير من الخلط واللبس والتوظيف الأيديولوجى والسياسى. الحزب الإخوانى مثلًا فى تونس، يسمّى نفسه حزب «النهضة» ليسطو على تراث ذى قيمة رمزية مع أنّ المرجعية الأيديولوجية الإخوانية نشأت على النقيض من أفكار عصر النهضة وطرحت نفسها بديلًا عنها.
راشد الغنوشى نفسه أصدر كتابًا صغيرًا فى السبعينيات يسخر فيه من رفاعة الطهطاوى ومحمد عبده ويصفهما بالشيخين المغروَين بالغرب، ويرى أن أفكار عصر النهضة كانت منبهرة بالغرب، وسلّمت بتفوقه الحضارى، لذلك حادت عن قيم الإسلام ومناهجه.
وفعلًا فإن ما يميّز الخطاب النهضوى والإصلاحى أنه أراد أن يستفيد من وسائل القوة فى الحضارة الغربية الجديدة ليقتبسها لصالح المسلمين، بينما قام الخطاب الإخوانى على العكس تمامًا أى على اعتبار الحضارة الغربية جاهلية جديدة ينبغى القطع معها قطعًا تامًا وحاسمًا على غرار قطع الإسلام عند ظهوره مع جاهلية الجزيرة العربية آنذاك.
موقف الغنوشى ليس إلا امتدادًا لتنظيرات سيد قطب ومحمد قطب عن الجاهلية الجديدة. لكنه فى آخر الثمانينيات عندما أراد أن يظهر بمظهر مقبول غيّر اسم تنظيمه من «الجماعة الإسلامية» إلى «النهضة».
■ كيف يمكن التغلب على تلك العورات التى تحدثت عنها فى كتابك «مواقف من أجل التنوير»، وعلى رأسها عجز الخطاب الإصلاحى العربى عن التعامل النقدى مع الحداثة الغربية، وعدم إدراك الهوة التى تفصل مسلماته عن الواقع؟
- قلت منذ ١٩٨٩ «تاريخ سقوط حائط برلين» إنه لا يمكن أن يتغير العالم كله وتبقى المجتمعات العربية ثابتة على أوضاعها سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا ودينيًا. هذا مستحيل تاريخيًا. التاريخ لا يعيد نفسه، لكن هناك قوانين فى التاريخ لا يمكن لأحد أن يتمرد عليها، ضرورة التغيير عندما يتغير العالم حولنا ليس فقط قانونًا فى التاريخ بل هو قانون بيولوجى، فالديناصورات التى كانت أضخم الكائنات على الأرض اندثرت لأنها لم تكن قادرة على مواكبة التغيرات المناخية والبيئية التى شهدها كوكب الأرض قبل ٦٥ مليون سنة من الآن.
الإصلاح الدينى الحقيقى لا يمكن أن يقوم على فراغ، ولا بدّ من أن يقوم على العلم، دون علم لا يمكن أن يقوم إصلاح دينى، ومن لم يكن متمكنًا من علوم التاريخ والاجتماع والنفس والأنثربولوجيا والاقتصاد والسياسة والدراسات المقارنة للأديان والحضارات فلن يكون له حظّ فى المساهمة فى مشروع الإصلاح الدينى، عندما يوجد أشخاص يفهمون هذه العلوم آنذاك سيجددون الخطاب الدينى وقضاياه فى تفاعل إيجابى مع وقائع العصر. أما من كان جاهلًا بها أو مُطلعًا اطلاعًا سطحيًا عليها فهو سيعيد ترديد معارف وحلول انتهت مدة صلاحيتها.
ما زلنا نثبت وجود الله بالقول إن كل حادث لا بدّ له من محدث استيحاء من العلم القديم ومن فلسفة أرسطو التى انتهت مدة صلاحيتها مع ظهور ديكارت وكانط. وما زلنا نرفض النظرية التطورية فى ظهور الأنواع، مع أنها النظرية المعتمدة فى كل جامعات العالم. عندما يأتيك شاب ويسألك أين يقع السدّ الذى بناه ذو القرنين ليأسر فيه يأجوج ومأجوج بماذا ستجيبه وقد أصبحت كل بقعة فى الأرض معلومة والأقمار الصناعية فوقنا تراقب كل شىء؟
إما أن تكون إجاباتنا من قبيل الجهل المقدس، أو أن نمارس العنف على السائل كى لا يخوض فى هذه المواضيع.
لو كان الناس يعلمون أن قضايا مثل وجود الله وخلق الإنسان وقصة ذى القرنين وغيرها من القضايا لها إجابات فى العلم الحديث لما حكموا على أنفسهم بالبقاء فى الجهل المقدس. الدين سيظل دائمًا موجودًا وفاعلًا فى الوعى البشرى لكنّ التأويل الدينى لا يمكن أن يظلّ واحدًا مع تغيّرات الحضارة الإنسانية.
■ فى كتابك «الدولة العالقة» تحدثت عن عدم وصول الدول العربية بعد إلى مفهوم الدولة الحديثة بسبب الانفصام بين «السطح السياسى والعمق المجتمعى».. هل من سبيل تراه ممكنًا لتدارك هذه الوضعية؟
- تفكيرى فى قضية الدولة جاء نتيجة لتفكيرى فى قضية الدين، بصفة عامة، نشأة الدولة الحديثة ارتطمت بالقضية الدينية فى الغرب كما فى الشرق، هذا أمر معروف، لكن فى الغرب، وبعد فترة طويلة من النزاعات، انتهى الأمر بالتوافق على شكل الدولة المسمى «الدولة الوطنية»، وبعلاقة بين الدول جسدته معاهدة «وستفالى» التى تجددت فى العصر الحالى عبر نظام الأمم المتحدة.
بمقتضى هذا الوضع الحديث لم تعد الدولة دينية، ولم يعد يعترف بهيئة دينية أعلى تخضع لها دولة أو مجموعة من الدول، كما كان شأن الكنيسة سابقًا، وكما يراد لما يسمّى «الاتحاد العالمى لعلماء المسلمين» أن يكرسه حاليًا.
هذا لا يعنى أن الدين اختفى وإنما معناه أنه اتخذ وظائف وعلاقات أخرى مع باقى مكونات المجتمع. لقد شرحت كل هذا فى كتابى «ديانة الضمير الفردى» لكن ما أريد أن أذكره هنا أن «الشرق الأوسط الكبير» هو تقريبًا الرقعة الجغراستراتيجية الوحيدة فى العالم التى ما زالت متردّدة فى القبول النهائى بهذا الوضع الحديث.
أود أن أوضح أن كل دولة مهما كان شكلها مهيأة لأن تواجه أزمات، والدولة الحديثة تواجه الأزمات، وقد رأينا العديد من الأمثلة على ذلك، لكن الدولة العالقة شىء آخر، الأزمات فى الدول المستقرة تنتهى بتغيير السياسات المتبعة أو الأشخاص الحاكمين أما الأزمات فى الدول العالقة فإنها تؤدى كل مرة إلى إسقاط شرعية الدولة ذاتها وطرح النقاش مجددًا، هل تكون دولة وطنية أم دولة دينية؟
هناك فارق بين أزمة ترتبط بتسيير الدولة وأزمة فى شرعية الدولة. يمكن أن تحدث أزمات كثيرة فى تسيير الدولة دون أن يؤدى ذلك إلى مراجعة شرعيتها، بينما أزمة واحدة فى الشرعية يمكن أن تقضى على الدولة والمجتمع.
الانفصام بين السطح السياسى والعمق الاجتماعى هو النتيجة المباشرة والحتمية لأزمة الشرعية، التى هى بدورها مترتبة على غياب حلقة الإصلاح الدينى، فالدين هو ثقافة جزء مهم من المجتمع، وإذا انحصر فى التأويل التقليدى ولم يعوضه تأويل إصلاحى متلائم مع العالم الحديث، عالم الدولة الوطنية المدنية ونظام وستفالى، فإن الوضع يكون كما يلى: نخبة فى الحكم والمعارضة، فى السياسة وفى الثقافة، تتحدث باسم القانون، وعمق اجتماعى يفكّر بالفقه الدينى القديم. أصحاب القانون يرون ذلك الفقه شيئا هامشيًا أو رجعيًا وأصحاب الفقه يرون القانون أمرًا مسقطًا عليهم يخضعون له بحكم الإكراه لكنهم يتمردون عليه كلما سنحت الفرصة.
يمثل هذا الوضع عنصر خطر جاثمًا على استقرار الدولة والمجتمع على حدّ سواء. لا حلّ لهذه المعضلة إلّا بتوازى حركتين فى المجتمع، حركة من القانون إلى عموم الشعب لتصبح مفاهيمه وأحكامه وفلسفته مفهومة ومبررة للجميع، وحركة من الفقه الدينى إلى القانون للتخلص من كلّ الأحكام التى انتهت صلاحيتها ولم تعد ملائمة لروح العصر، وهى كثيرة جدًا. إذا تواصلت هذه الحركية المزدوجة دون انقطاع على عدة عقود فإنها تنتهى بعد فترة بالدولة والمجتمع، بالسطح السياسى والعمق المجتمعى، إلى التجانس الذى يضمن الاستقرار الحقيقى والدائم.
■ استنادًا إلى ما أطلقته على هذه الحال من تسمية «الدولة العالقة».. هل يمكن اعتبار الحراك التونسى الأخير، وكذلك لفظ شعوب عربية لجهالات الإسلام السياسى، خطوة نحو التخلص من ذلك الانفصام بين السطح السياسى والعمق المجتمعى؟
- الحراك الأول لتأسيس الدولة الوطنية فى شكل أولى وجنينى كان حراكًا نخبويًا وارتبط بإرادة أشخاص وطموحاتهم، مثل محمد على فى مصر وأحمد باى فى تونس، وطبعًا فى ذلك الوقت لا يمكن الحديث عن شعب وإنما يوجد أهالى وقبائل وتجمعات حضرية وتجمعات ريفية. والحراك الثانى هو الذى ارتبط بنشأة حركات التحرر الوطنى للتخلص من الاستعمار، آنذاك نشأ مفهوم الشعب الذى تحدّد بالضدية وبكونه نقيض المستعمر.
ولما انتصرت حركات التحرر كانت كلها تطالب بدولة وطنية، ومن هنا تستمد هذه الدولة شرعيتها التى لا تقبل النقض والمراجعة، لأنها كتبت بدماء الشهداء، وإن ظلت طبعًا فى حاجة للتطوير والتجديد ككل شىء إنسانى.
الحراك الثالث يراه أغلب الناس قد بدأ مع الثورات العربية الأخيرة، أو ما دعاه الغرب بـ«الربيع العربى»، وأنا أراه قد بدأ منذ التسعينيات فى الجزائر التى شهدت أول حراك شعبى من الصنف ما بعد الاستعمارى. لكن سرعان ما انتهى إلى حرب أهلية أو ما يسميه الجزائريون «العشرية السوداء» وقد واجهوا فيه منفردين الإرهاب قبل أن يصبح موضوع الإرهاب عالميًا ويتفطن الجميع إلى خطورته.
ما حدث مع الثورات العربية جاء نسخة مكررة للسيناريو الجزائرى: شباب يطالب فى عفوية بالحرية والكرامة، ثم تنظيمات دينية تستولى على حراكه وتحوّله إلى عنف وإرهاب. الجيش، بصفته المؤسسة الوحيدة التى تحتفظ بتماسكها فى المجتمعات المضطربة ويتميز أفرادها بقدر أكبر من الوطنية يطرح نفسه مخرجًا وحيدًا من عنق الزجاجة.
ما سمى «الربيع العربى» بدأ فى تونس يوم ١٧/١٢/٢٠١٠ وانتهى فيها يوم ٢٥/٠٧/٢٠٢١، أما حراك الشعوب العربية من أجل الحرية والكرامة فسيتواصل ولكن على أسس أخرى، لأن الإسلاميين حوّلوا الحرية إلى فوضى، والكرامة إلى تبعية ذليلة، وظنوا الوطن غنيمة منحها الله إياهم تعويضًا على معاناتهم وجزاء على إخلاصهم له. لقد خانوا الجماهير التى آمنت بهم فى فترة وانخدعت لشعاراتهم ووقعت فى شراكهم لكنها تعلمت الدرس واستوعبته.
■ قلت فى الكتاب ذاته إن الدولة الوطنية لا يمكن أن تستقر سوى بمراجعة عميقة للتأويل الدينى والوظائف الدينية فى المجتمع.. برأيك من المنوط به إجراء هذه المراجعات فى الوقت الراهن؟
- فى المدى القريب لا أتوقع أن تطرح قضية الإصلاح الدينى بزخم كبير، لأنه إذا حصل حريق فى البيت وكانت أركانه غير ثابتة فإنك لا تشغل نفسك بالنقاش فى أركان البيت بل تعمل أولًا على إخماد الحريق. لكن بعد ذلك لا بدّ من مراجعة البناء وتحصينه وإلاّ نشب حريق ثان وثالث ورابع. من جملة القضايا الأساسية قضية الإصلاح الدينى الشامل والحقيقى والعميق القائم على أسس علمية.
مصير الإصلاح الدينى مرتبط بالتفاعل الإيجابى والتقبل الذى يمكن أن تحظى به المقترحات والأفكار التى يقدمها المثقفون الملتزمون بقضايا مجتمعاتهم، والغيورون على مستقبلها وعلى مكانتها فى هذا العالم، الذى لا يرحم الضعفاء والمترددين.
المؤسسات الدينية ليست وصية على الشعوب لكنها هى أيضًا مؤسسات غيورة على مستقبل أوطانها، لذلك فإنّ تقبلها وتفاعلها الإيجابى مع الأفكار الإصلاحية سيمكن من ربح الوقت واختصار المسافة.
أعتبر أنى أسهمت من موقعى كمثقف مساهمة متواضعة فى هذا المشروع الحضارى المصيرى بنشر العديد من الكتب، أحسب أنها غيّرت تاريخ الإصلاح الدينى ونقلته من التوظيف الأيديولوجى إلى البحث العلمى القائم على قواعد التاريخ الثقافى والدراسات المقارنة. ترجمتْ دراساتى إلى الإيطالية والفرنسية والانجليزية وأصبحت فكرة إدراج الإصلاحات الدينية فى مجال الدراسات الدينية المقارنة فكرة مقبولة فى الأوساط العلمية الدولية، وهذا أمر جديد ومهم، لأن هذا العلم لم يكن فى السابق يهتم بهذا المبحث ولا يعدّه من محاوره.
■ هل تظن أن المراجعات واردة فى أيديولوجيا الإسلام السياسى؟
فى كتابى الأخير «الدولة العالقة» بيّنت بطريقة علمية أن المراجعات هى نوع من الفهلوة، حسب العبارة المصرية، وأخذت مثال راشد الغنوشى الذى هو لا شكّ أكثر مفكرى الإسلام السياسى انفتاحًا، ومع ذلك بينت كيف أنّ القضية لا تتعلق بالنوايا الطيبة، سواء أكانت صادقة أم مُناورة، وإنما تتعلق ببنية الخطاب نفسه. لذلك كان عنوان الفصل الرابع من الكتاب «فقه الإصلاح الدينى بديلًا عن الفهلوة». وكتبت، فى وقت استولى فيه الإخوان على كل شىء فى الدولة، وكان العديد من العلمانيين التقليديين قد رضوا بمناصب مريحة مقابل توقفهم عن نقد حزب «النهضة»- هذه الجملة التى ترد فى أوّل الفصل: «من أراد أن يقيم دولة وهو ينشر بين الناس أفكار حسن البنا وسيد قطب والمودودى فهو كمن يحرث البحر أو يزرع الصحراء. فالأصولية السياسية ليست مشروع دولة بديلة، كما كانت القومية دولة بديلة عن الإمبراطوريات الكوسموبوليتية أو الاشتراكية بديلًا عن الدولة الرأسمالية، الأصولية هى مشروع الدولة العالقة».