كُتاب معاصرون يطرقون أبواب التاريخ لرصد التحولات في الهوية المصرية
كان السؤال حول الهوية المصرية وملامحها ومحدداتها حاضرًا بقوة عبر التاريخ، لاسيّما في أوقات فارقة من عمر الأمة المصرية كتلك التي تواجه فيها أسئلة الوجود والمصير في ظل تهديدات توشك أن تعصف بوجودها كالاستعمار الذي اقتات على خيرات الشعوب وقوّض حريتها، لكنه في الآن ذاته أسهم في توحيد الرؤية القومية المصريّة تحت لواء مصر للمصريين، والإيمان العميق بالقوة المصرية في مواجهة كل معتد.
راوح السؤال حول ملامح الهوية المصرية مكانه بين السياسيين والمثقفين، ومثلما كان ركيزة في التوجه السياسي القومي، كان حضوره في الكتابات الفكرية المصريّة موضحًا لتلك الخصوصية التي امتاز بها المصريون منذ التاريخ المصري القديم وحتى الوقت الراهن، خصوصيّةٌ يُمكن من خلالها فهم واستيعاب أسباب رفض المصريين لمحاولات فرض هوية واحدة متعنتة عليهم والنزوع الدائب للشخصية المصرية للتخلص مما علق بها من شوائب لا تمت لحضارتها وشخصيتها بصلة.
يُعاود الكُتاب المعاصرون التساؤل حول مفهوم الهوية المصرية ومحدداته، بعد عقد عاصف أراد فيه البعض أن يُبدِّل وجه مصر المتسامح بآخر ينتمي لعصور بائدة وبدوية، فيطرقون أبواب التاريخ للتعرّف إلى عناصر الثبات في الهوية المصريّة التي استمرت عبر التاريخ وتمثلاتها لدى النخب المصريّة، وينظرون إلى الراهن في إطار امتداده التاريخي للتعرف إلى ما نشهده من تحولات ومسبباته.
"تفكيك الوهم".. انفجار الهويات الفرعية
يُحلل الباحث البارز نبيل عبد الفتاح في كتابه "تفكيك الوهم.. مصر والبحث عن معنى في عالم متحول" الصادر حديثًا عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، تغيرات وتحولات السياسة والمجتمع المصري.
وتأتي مسألة الهوية والصراعات عليها لا سيما في الثقافة والصراع الديني السياسي كواحدة من أبرز الموضوعات التي يتعرض لها الكاتب في عمله.
يضم الكتاب ثلاثة مؤلفات سبق ونشرهم الكاتب في التسعينيات من القرن الماضي وهم "خطاب الزمن الرمادي.. رؤى في أزمة الثقافة المصرية"، و"عقل الأزمة.. تأملات نقدية في ثقافة العنف والغرائز والخيال المستور"، و"الوجه والقناع.. الحركة الإسلامية والعنف والتطبيع".
يُنوّه عبد الفتاح في مقدمة كتابه بأن الكتب الثلاثة تدور حول عالم التحولات، الذي يبدأ من انهيار السرديات الكبري وعلى رأسها الفلسفة الماركسية وبروز أيدولوجيات حركة التحرر الوطني، وما شهده العالم ككل ومصر بصفة خاصة من اللجوء إلى الخيار الرأسمالي وحرية السوق، وأثر هذه التحولات على حياة المصريين في ظل صعود الأدوار الإقليمية لبعض الدول النفطية، والتغير في القيم والسلوك وطرائق التفكير.
قادت هذه التحولات إلى تغيرات بل شروخ في الهوية القومية المصرية؛ إذ تبنى المصريون قيمًا دينية واجتماعية محافظة مستمدة من أنماط دينية وهابية وسلفية استُعيرت من مجتمعات تسيطر عليها البداوة، وتأجج الصراع حول المعنى في ظل هذه التحولات التي شهدت تقلُصات في تكويننا الاجتماعي والثقافي ترافقت مع العنف الاجتماعي والخطابي واللفظي والمادي المحمول على الإرهاب والكراهية.
يبين الكاتب الفارق بين حالة التشظي في السرديات القومية المصرية إثر التحولات التي مرّ بها المجتمع المصري لا سيّما منذ السبعينيات من القرن المنصرم، وحالة الالتفاف حول الهوية القومية المصرية وشعار مصر للمصريين الذي كان حاضرًا في إطار الدولة الحديثة ومرتبطًا بتطور الحركة القومية الدستورية في الكتابات السياسية والفكرية على حد سواء.
ويلفت الباحث المصري إلى أن انفجار بعض الهويات الفرعية الدينية والعرقية والمناطقية في ظل مجتمع التفكك والعشوائية هو أخطر ما واجه الهوية المصرية على مدار خمسة عقود، والذي تجلى في بعض من هيمنة الديني على المدني وتوظيفاته، وبعض من الإخفاق في تحقيق الشرط الحداثي وكذلك في تشظي السرديات القومية المصرية.
"هدم الإسكندر".. مساءلة مفهوم الهوية
من خلال سيرة الإسكندر الأكبر وما أثير حوله من معلومات مغلوطة والسعي الغربي الدائم لإثبات انتسابه إليهم دون سواهم من الحضارات والشعوب، يهدف الباحث الشاب رامي رأفت في كتابه "هدم الإسكندر.. بين الأسطورة الكاذبة والواقع الذي كان"، الصادر حديثًا عن دار الرواق للنشر، إلى إعادة التساؤل حول معنى الهوية ومحدداتها لا سيّما وأن تاريخ الإسكندر يتقاطع مع التاريخ المصري.
يهدف الكاتب إلى الوقوف على أوجه العبث بتاريخ الإسكندر وهويته التي خضعت للتأويل السياسي، وفي خضم ذلك يتساءل حول معنى الهوية؛ هل ينسب الشخص إلى بلد ما بحسب مكان ولادته؟ أم بحسب أصوله؟ وما هي هذه الأصول؟ أهي الأب والأم أم الجد الأول أو الثاني أو الثالث أو العاشر؟ إلى أي مدى زماني وإلى أي امتداد من الأجيال تستحق الأصول القديمة أن تطالب بإرثها ودمائها وأصولها الثقافية والحضارية والمادية في أرض وبنيان وعمران؟.
ويُناقش الكاتب الادعاءات المتكررة للعالم الغربي حول ارتباطه بأصول رومانية وإغريقية وأناضولية وثنية قديمة رغم أن هذه الأصول أكثر انتماء إلى الشرق منها إلى الغرب؛ فاليونان وروما شرقيتان أكثر مما كانتا غربيتين، وحتى الآن لم يزل بين شعوب شرق المتوسط أوجه تشابه أكثر من تلك التي تجمع اليونانيين والإيطاليين بشعوب الغرب الأوروبي المُطل على المحيط الأطلنطي.
ورغم أن الأوروبيين قد احتكروا هوية الإسكندر ونسبوه إليهم، إلا أن الكاتب يحاجج بأن الهوية ليست شيئا ملموسًا يتوارثه الفرد عن أبيه، أو يكافأ به كل من ولد فوق أرض محددة أو اعتنق في بعض حياته إحدى الديانات بقدر ما هي معنى رمزي ننسب بها الأفراد لكيانات اعتبارية أكبر، فهي الثقافة الجامعة والاختيار، ومن ثم فالإسكندر باختياره لم يكن أوروبيًا لكنه كان شرقيًا بأصوله وروافده وعالميًا باختياره وقراره.
ويرى الكاتب أن معاني الوطن والوطنية والحدود والهوية غير ملموسة، واختُرعت لتنظيم سلوكيات البشر خدمة لمجتمعاتهم، فهي إن كانت مفيدة لخدمة ما تنتجه من معان إيجابية كالانتماء والفداء والتضحية، يبقى لها نتائج سلبية لما قد تولده من عنصرية وغرور وتطرف وعداء موجه للأغيار.
"ذاكرة النُخبة".. مُقتطفات من التاريخ
هل لنا من قراءة جديدة للتاريخ؟ هل آن الأوان أن نواجه أنفسنا بما علمه التاريخ لنا، أم أننا سوف نترك الأيام المقبلة تعبث بنا كيفما تشاء؟ والتساؤل الأهم ما الذي قامت به النخبة في مصر لمجابهة هذا التكرار، هل تركوا الأحداث تتكرر دون مواجهة؟.
من هذه الأسئلة ينطلق الباحث الشاب محمد غنيمة في كتابه "ذاكرة النخبة.. أوراق ومراسلات نادرة من التاريخ الحديث"، لكنه في متن الكتاب لم ينشغل كثيرًا بتنظيم إجابة حول ما طرح من أسئلة أو تحقيق وحدة موضوعية تنضم موضوعات الكتاب تحت لوائها.
مع ذلك، فإن المقتطفات التي طرحها غنيمة في كتابه، سواء كانت في صورة دراسات أو مراسلات مترجمة، قد تحمل القارئ على التفكُّر في أوجه التغير التي حلّت على المجتمع المصري عبر عصوره وأسبابها الداخلية والخارجية، فضلًا عن الملامح الراسخة التي لم يطرأ عليها التغيرات رغم المحن والصعاب التي يرويها التاريخ.
يبدأ غنيمة من كتاب عبد الرحمن الجبرتي "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" ويروي بعض مما أرخ له الجبرتي عن ثلاثة عصور هم مصر العثمانية، والحملة الفرنسية، وظهور محمد علي وسنواته الأولى، موضحًا ما ذكره الجبرتي عن روح الفكاهة لدى المصريين وما سجله من نوادر وطرائف لا تخلو من سرعة البديهة وخفة الظل.
كما أبرز الكاتب نقد الجبرتي في تناوله الحياة اليومية للمجتمع المصري خلال القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر للثقافة المجتمعية وتدهور الحياة الفكرية في العلوم الدينية والعلوم العقلية والانحرافات في ممارسة العقيدة، وتسجيله لملامح الفترة الأولى من حكم محمد علي باشا.
تحدث الكاتب في فصل آخر من الكتاب عن مفردات الشخصية المصرية كما سجلها جمال حمدان في كتابه "شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان"، من أن مصر كلما زادت تغيرًا وتطورا زادت شخصيتها وذاتيتها، وأن التدين والاعتدال والشخصية الاجتماعية المنطلقة غير المنغلقة من أقدم خصائص المصريين.
واهتم الكتاب بتوضيح بعض من أدوار النخب المصرية في عصور مضت، ومنها دور طه حسين في دخول الفتيات الجامعة، إذ يروي طه حسين، في واحدة من الوثائق، عن مؤامرة اشترك فيها مع أحمد لطفي السيد وعلي إبراهيم أبوالطب المصري على وزارة المعارف والحكومة المصرية لتمكين الفتيات من دخول الجامعة المصرية، بدأت بقبولهم التحاق الفتيات بالجامعة دون أن يخبروا وزارة المعارف فضلا عن تقديمهم الدعم للفتيات وتحفيزهن على الاشتراك بالتعليم الجامعي من خلال إعفائهن من المصروفات الدراسية في سنواتهم الدراسية الأولى.
ومن الأدوار البارزة للنخب المصرية، يذكر الكاتب دور صفية زغلول الذي يتضح عبر مراسلاتها لزوجها سعد زغلول خلال فترة نفيه إلى سيشل، والذي يبرز فيها دعمها للقضايا المصرية وترسيخها لمبدأ استقلال مصر، وكذلك يُبرز الكاتب دور علي مصطفى مشرفة في إثراء الحركة الفنية والأدبية وجهوده في تبسيط العلوم.
"تاريخ في الظل".. مُكونات الهوية المصرية
يُعد الباحث الشاب وليد فكري، من أبرز الأقلام الشبابية التي ولجت حقل التاريخ في السنوات الأخيرة، وحققت أعماله رواجًا وقبولًا لدى فئات واسعة لا سيّما من الشباب.
وفي واحد من كتبه المبكرة "تاريخ في الظل" كان السؤال حول الهوية المصرية حاضرًا كسؤال رئيس حاول الكاتب أن يُجيب عليه بسلاسة، في وقت كانت مصر تمر بتحولات مصيرية عقب الثورات العربيّة وما خلّفته من إشكاليات.
يرى فكري إن سؤال من نحن بات مُلحًا ولكنه ينبغي ألا يكون بحثًا عن هوية واحدة ننتصر لها وإنما بحثًا عن مكونات هويتنا المصرية كلها لنعرف الروابط بينها ونضعها متجاورة حتى تتكون الصورة واضحة، ومن ثم فالصراع على تحديد هوية واحدة بلا معنى، إذ تظل الهوية المصرية بمثابة فسيفساء تُشكل كل وحدة منها جزءًا من الصورة.
يُبين الكاتب أن قبطية مصر ليست مجرد صفة ولكنها أمر واقع يفرض نفسه وله آثاره الملموسة التي لا تتعارض مع باقي مكونات هويتها من إسلام وعروبة، وكذلك فالهوية الإسلامية في مصر لا تحارب غير المسلمين بل تعتبرهم من مكوناتها البشرية الهامة.
ومن ثم، يلفت الكاتب إلى أن الاعتراف بالهوية الإسلامية لمصر لا يُمثل خطرًا على باقي الهويات المصرية والمنتمين لها لكنه يحتاج إلى استيعاب وذكاء في إزاحة كل ما علق بهذه الهوية من أفكار متشددة ومتعصبة لا تمت للمجتمع المصري بصلة، كما ينافح عن الهوية العربية كجزء من الهوية المصرية، خاصة وأن مصر كانت وما زالت على اتصال بمحيطها الذي يؤثر ثقافيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وأمنيًا عليها.