يوميات مصرى فى زمن «كورونا»
أصعب الأيام التى تمر على الإنسان هى أيام المِحَن والكروب، ومن أشهرها الأوبئة والمجاعات، ونستطيع تفهم ذلك من مطالعة الكتاب الصغير فى حجمه، العظيم فى محتواه «إغاثة الأمة بكشف الغُمة» للمقريزى، وهو أشبه بيوميات مصرى عانى الأمرّين فى زمن الوباء والمجاعة، مما دفعه ليس فقط إلى تسجيل يوميات المحنة، بل، وبحكم كونه مؤرخًا، إلى تأريخ الأوبئة والمجاعات فى مصر الإسلامية.. وهكذا أخرج لنا المقريزى- ومن رحم المعاناة- أحد أهم أعماله، الذى يعتبر بحق نموذجًا مبكرًا للتاريخ الاجتماعى الاقتصادى.
تذكرت كل ذلك وأنا أُطالع الكتاب صغير الحجم، عظيم المحتوى «يوميات مصرى فى زمن الكورونا» للكاتب الصحفى علاء عبدالهادى، وكان أول سؤال تبادر إلى ذهنى: لماذا يلجأ الإنسان فى زمن المحنة إلى التدوين وقهر الخوف من خلال البوح؟ هل هى غريزة حب الحياة والبقاء، والانتصار على المرض والموت الذى يأتى بغتة؟!
يحاول علاء عبدالهادى الإجابة عن هذا السؤال: «أسجل يومياتى فى مواجهة وباء، أو جائحة الكورونا، التى اجتاحت الكرة الأرضية، ولا أعرف متى ستنتهى، هل ينتهى الوباء ويرحل سريعًا، أم يطول بقاؤه؟.. لكننى قررت أن أُدوِّن تجربتى وتجربة أسرتى لكى يقرأها أحفادى فى يوم من الأيام قد أكون فيه غير موجود، أو موجودًا ولست قادرًا على الإجابة عن أسئلتهم».
وفى زمن المحنة يأتى البوح، وأدب الاعتراف، وإحساس الإنسان بالضعف الشديد أمام المجهول الذى لا يعلم من أين يأتيه: «عزائى أن لحظات ضعفى الإنسانى البادية بين السطور لم تكن شأنى وحدى، بل شاركنى فيها كثيرون من سكان الأرض، أغنياء وفقراء، ملوك وآحاد الناس، رجال ونساء، شباب وشُياب».. إنه هنا يتحدث عما يمكن أن نُطلق عليه تجاوزًا «اشتراكية الوباء».
ويمثل الكاتب هنا جيلًا ربما عاصر بعض الحروب لكنه لم يرَ الوباء رَأىَ العين، ربما قرأ عنه فى بعض الروايات، أو شاهد بعض الأفلام التى تعرضت أحيانًا لقصص عن ماضى الوباء، لكنه ها هو يرى الوباء بعين الحقيقة، الحقيقة التى تجاوزت الخيال: «إنه الفيروس الذى أوقف كل أساطيل الأرض، وأوقف حركة الطيران لأول مرة منذ عرف الإنسان الطيران، وأُغلِقَت بسببه كل المطارات، وأُغلِقَت الحدود، وكل دولة مشغولة ومهمومة بمحاولة انتشال مواطنيها من وباء الكورونا.. لا سياحة ولا مغادرة للأوطان»!!
ويقدم الكاتب لوحات إنسانية فريدة، لم تعرفها الحياة المصرية من قبل، يرصد إعلان الحكومة تعطيل الدراسة فى المدارس والجامعات، وإغلاق المولات التجارية والمطاعم والمقاهى، وتعطيل المحاكم والشهر العقارى، وإغلاق الأندية، ويشير إلى أن أكثر الإجراءات قسوة كان وقف الصلاة فى المساجد والكنائس.
ويُدوِّن الكاتب وقائع أول ليلة لحظر التجول الليلى: «إنه السكون الذى لم أرَه من قبل فى الحى الذى أقطن فيه، ولا حتى أيام ثورة يناير، كانت هناك اللجان الشعبية التى يُحدِث أفرادها صخبًا وجلبة».
ويرصد الكاتب المزيد من عبثية اللحظة مع حظر التجول؛ حيث اعتصم الناس فى منازلهم خوفًا من الوباء، وأصبحت الشوارع مسرحًا مفتوحًا للكلاب: «توزعت الكلاب على طول الشارع وبدأت النباح الجماعى مُعلِنَة عن نفسها، أدركت بغريزتها أن هذا أوانها».
ومن أهم وأمتع فصول الكتاب- رغم قصره- رصد الكاتب حال البلاد والعباد فى رمضان فى زمن الكورونا: «اغتال كورونا فرحتى وبهجتى بقدوم رمضان الذى أنتظره من العام إلى العام.. فى زمن الكورونا لا شىء يقول إننا فى شهر رمضان، لا بهجة، لا زينة.. رمضان هذا العام منزوع الخير والرائحة والبركة»!!
نحن أمام يوميات مصرى فى زمن الكورونا، هذه اليوميات التى ستزداد أهميتها التاريخية مع مرور الأيام، وعندما يتجاوز العباد البلاء، وتُبقى لنا الذاكرة هذه اليوميات الصعبة التى مرت بها البشرية: «فى يوم من الأيام ستتقزم هذه المعاناة والتجربة المريرة التى مر بها كل سكان الأرض».