صلاح جاهين.. تفاصيل الوجه الساخر الذي أورثه الوجع
ارتبط اسم صلاح جاهين عند أغلبنا بالرباعيات الشعرية، والتي مازالت تسكن روح كل من يطالعها، وتأتي من الماضي لتسكن الحاضر، وتقفز إلى المستقبل عبر العديد من الوسائط والتي أهمها وأبرزها الصورة الحسية التي تحملها عبر كل رباعية.
لكن ثمة وجه آخر لجاهين وهو وجه الرسام الساخر والناقد والمحرض والثوري على كل ما هو جامد وثابت. ذلك الوجه أدخله في مواجهات وصدامات كبيرة أشهرها معركته مع الشيخ “الغزالي”، والتي وصلت إلى تدخل نائب رئيس الجمهورية حسين كمال وذلك للمصالحة بين الشيخ “الغزالي” والشاعر والرسام "جاهين".
في معرضه المنعقد ببيت السحيمي تزين الجدران 40 لوحة من رسومات جاهين، تمثل مراحل مختلفة من حياته وتؤرخ لمواقفه، إلى جانب أنها تشير إلى راهن الوضع السياسي والاجتماعي والثقافي والفني التي كانت تمر به مصر في تلك الفترة. يمكن إسقاط بعض ما تحمله تلك الأعمال على واقعنا الراهن، فهي بطبيعة الحال تجسد صورا لمشكلات وأزمات عديدة للأسف منها ما هو قائم.
ثمة لوحات يمكن استدعاؤها ومعبرة تماما عن الظرف الاقتصادي الراهن منها تلك اللوحة التي تشير إلى العام 1985 لموظف بيده صحيفة عنوانها الرئيس على صفحتيها "تحسن الجنيه وأمامه رجل آخر يقول فرحان حضرتك؟ مش عارف أن ده ضدو الدولار؟".
وتبلغ قمة السخرية والنقد للتعنت الوظيفي الذي يعاني منه جموع الشعب المصري عبر تعاملاتهم اليومية والمباشرة بالمصالح الحكومية.
اللوحة تصف الوضع المؤسف الذي تعيشه تلك الدواوين الحكومية، عبر رفع لافتات كلها تصب في مصلحة المواطن منها "الوقت من ذهب"، وهؤلاء يضيعونها في اجتماعات مغلقة تهدر وقت المواطنين.
اللوحة تشير إلى اجتماع للموظفين ولكن بصحبة أبنائهم داخل أروقة المؤسسة وتعليمات المدير التي تشير إلى الساعي بأن يمنع الجمهور تحت دعوى أنه لديه اجتماع عائلي.
كان جاهين دائما تشغله القضايا المتعلقة بالناس، وكان الفن ومازال يجسد أهم وأبرز الوسائط ما بين السلطة سياسية كانت أو دينية أو اجتماعية أو ثقافية أو حتى فنية. والشعب لذا كانت لوحاته غالبا ما تدفعه إلى المواجهة وبشكل صريح وساخر عبر لغة بصرية شديدة السخرية والبساطة. ففي إحدى لوحاته سخر من أداء الرقابة، وأشار إلى ذلك الجمود الذي يبدو أنه مازال قائما في بعض الأحيان حتى هذه اللحظة الراهنة سواء في السينما أو التليفزيون أو المسرح. جاءت اللوحة تحمل عنوان في المسألة الرقابية لثلاثة أشخاص.. أحدهم كاتب سيناريو يقول "تصور قدمت لهم سيناريو بيمجد في الرقباء، وبرضه رفضوه!"
يشير جاهين إلى أن الرقابة وجودها يصنع رقابة داخلية دون وعي أو بوعي لكنها لن تضيف شيئا ولن تكسر ذلك الجمود المخبوء، هو يعلن رفضه للرقابة وكذلك رفضه للتحايل، هو مع الإبداع وحريته دائما.
خرج جاهين من معاركه الكثيرة والمتعددة، والتي لم تتوقف أبداً برحلة مع المرض على حد تعبيره، فبعد لوحة المياه والمدعي العام قال جاهين ردا على سؤال الكاتب الصحفي حبيب عيسى والمنشور في مجلة المعرفة عام 1977.. ماذا عن الكاريكاتور الذي رسمته عن المياه وثارت من أجله الضجة المعروفة وكدت تذهب نتيجة ذلك للمحكمة ربما بعدها إلى أين؟ ليرد: الآن كل الناس كانت في صفي، وكل الناس كانوا ضد هذا المدعي العام. وفي الحقيقة أنا تعودت في القضايا التي تثير ضجة أن آخذ بعين الاعتبار أن يقف نصف الناس معي والنصف الآخر ضدي لأن الناس يمين ويسار وأنا يساري فيقف كل اليساريين معي وكل اليمنيين ضدي وهذه طبيعة الأمور لكن في هذه القضية قضية كاريكاتور المياه جميع الناس كانت معي اليمنيون واليساريون، الناس والصحافة، حتى النيابة كانت معي، ولكن بعد مرور شهر أصبح معي سكر وارتفاع في الدم لأول مرة في حياتي.
جاء حوار بعنوان أكبر قدر من البساطة أكبر قدر من البراءة للكاتب الصحفي حبيب عيسى عام 1977 في مجلة المعرفة عام 1977.. وفيه يقول السائل: في وسط الصخب الإقليمي المرتفع هذه الأيام في الوطن العربي نتحسس من تعبير "أكبر قدر من المصرية". ربما لو كانت الظروف طبيعية لما شعرنا بهذا التحسس؟!
ويجيب صلاح جاهين: أولا أنا مؤمن بالوحدة العربية، وعندما أقول المصرية "مصرية" أقصد بالتحديد كما تقول عندما نكون في دمشق أنك في حي الميدان، وهذا لا ينفي أن هذا الحي في دمشق، ودمشق في سورية، وسورية في الوطن العربي. وهذا يستوي مع أن أنتمي إلى أبي وأمي وجدتي، وخالتي ثم الإقليم ثم إلى الوطن العربي. في النهاية نتفق أن هدفنا من هو الوحدة العربية وسيبقى ضمن هذه الوحدة المصري مصريا
وقد كان سؤال الختام لصلاح جاهين لو طلب إليك أن ترسم الوطن العربي بالكاريكاتير ماذا يخطر لك في أول لحظة؟
- أرسم دكانة لحام “جزار” والأقطار العربية معلقة عنده، وممزقة الأوصال!
محيي الدين اللباد أعمال جاهين طيلة 30 عاما
يروي الكاتب والرسام محيي الدين اللباد في كتابه “نظر” أن صلاح جاهين تأثر بفنان الكاريكاتير جورج البهجوري، وحسن فؤاد، وكانت للشخصيات والمواقف والأماكن التي اكتشفها “حسن فؤاد” فتوحًا مهمة جذبت اهتمام صلاح جاهين، وبها عثر على الطريق المناسب للموضوعات والأفكار التي سيقلب بها فن الكاريكاتير في مصر كما تقلب فردة الشراب.
يتابع "اللباد": هضم صلاح جاهين اكتشاف جورج وحسن فؤاد، و لابد أنه تفرج جيدا حتى الاستيعاب على أعمال الأستاذ الكبير صاروخان وتلميذه الحوت عبد السميع، كما أنه قد اطلع جيدا على الكاريكاتير الغربي الحديث حينذاك، في المجلات الإنجليزية مثل: "بانش"، و"ليلبيوت"، و"مين أونلي"، وفي المجلة الأمريكية "نيويوركر".
ويضيف بعد عام من القصائد والرسوم المتفرقة في مجلة "روزاليوسف" فوجيء القراء منذ العدد الأول لمجلة صباح الخير 13 يناير عام 1956 بكاريكاتير جديد مختلف، صادم، مدهش ومبهج، واكتشفت الأعين المتعطشة للجديد سياقا محكما يربط هذا العدد الكبير من الرسوم كان ذلك هو كاريكاتير صلاح جاهين.
ولفت اللباد إلى أن “جاهين” عبر بريشته عن أفكاره وموضوعاته وشخصياته وأماكنه في لغة بصرية يسيرة وسهلة التوصيل.
وختم اللباد: على طيلة ما يزيد عن الـ30 عاما لم تتجمد رسوم جاهين.