مظاهرة «الأوبريت».. لماذا هاجم يوسف إدريس الموسيقار محمد عبدالوهاب؟
حدث في نهاية الخمسينيات ضجة حول فن «الأوبريت»، وتعالت الصيحات تنادي بوجوب أن تتجه موسيقانا إليه، فصرح الموسيقار محمد عبد الوهاب أكثر من مرة حينها بأنه في سبيله إلى إعداد أوبريت، وأكد تصريحاته بطريقة جعلت وزارة الثقافة تبادر وتتفق معه.
كتب يوسف إدريس حينها:«إن عبد الوهاب لن يلحِّن (مهر العروسة) ولا غيرها، وإن كل تصريحاته واتفاقاته ما هي إلا حركة ذكاء بارعة هدفها (سرقة) هذه المظاهرة المنادية بالأوبريت، تمامًا كما كان بعضنا، ونحن طلبة في الجامعة يصنع، حينما يلمح مظاهرة معادية مقبلة من بعيد، فيطلب من زملائه أن يرفعوه على أكتافهم، لينضم إلى المظاهرة ويبدأ يهتف بنفس شعاراتها حتى يطمْئن القائمين عليها، ولكنه شيئًا فشيئًا يبدأ يحرف المظاهرة وشعاراتها إلى ما يريد وينجح في النهاية و(يسرق) المظاهرة».
وةكان "إدريس" يرى أنه كلما كان عبد الوهاب يفاجأ بالمظاهرات المطالبة بالأوبريت لم يكن أبدًا يقف ضدها، بالعكس كان يتبناها، ويبدأ في عقد سلسلة من الاجتماعات، وينشر في الجرائد تصريحات وأحاديث وأخبارًا تؤكد أنه فعلًا يلحّن، وأنه في طريقه إلى الانتهاء منها، ويظل متحمسًا، ما دام الحماس للمظاهرة قائمًا، ويظل يردد الأحاديث والتصريحات حتى يهبط الحماس وينسى الناس، فينسى هو الآخر، وتنتهي المظاهرة النهاية التي يريدها لها عبد الوهاب.
تذكر كل هذا وهو يشاهد أوبريت «يوم القيامة»، ورأى أنه أوبريت جيد وألحانه لا بأس به، ولكنه أبدًا ليس ما يريد، لقد قدمته وزارة الثقافة مضطرة، وأنفقت عليه مضطرة بعد أن خذلها عبد الوهاب ولم يحقق وعده الذي كان قد قطعه على نفسه.
وقال:«عبد الوهاب قطع هذا الوعد وهو يعرف تمامًا أنه لن يوفيه وأنه ليس ملحن أوبريت، وأن حياته وثقافته الموسيقية وقالب الغناء العاطفي المفرد الذي تزعمه وحدد إقامته داخله لا يمكن أبدًا أن ينفرج بين يوم وليلة عن موسيقار يلحِّن الأوبريت وهو يتزعم المظاهرات، ويجزل الوعود، ويزاول حركات الذكاء هذه، فقط ليضيع الوقت ويشتت الحماس ويصرف الأنظار عن الأوبريت، كنوع من أنواع الدفاع عن النفس الفنية».
وأضاف «لقد تسلم عبد الوهاب حركتنا الموسيقية من سيد درويش وهي حافلة بكل ألوان التعبير الموسيقي، ولكن ربما لأنه أساسًا مغنٍّ ومطرب، وربما لحلاوة صوته وإعجازه، فقد آثر الأغنية العاطفية على غيرها وأخذ يعمل بروعة لتطويرها على حساب كل الألوان الأخرى حتى نجح في هذا إلى أبعد حدود النجاح، ويؤسفني أن أضيف، إلى أضر حدود النجاح أيضًا».
بالفعل سادت الأغنية العاطفية على ما عداها ومات فن الأوبريت، ومؤلفوه وملحنوه ضاعوا في طريق الأغنية الواحدة بشكلها العاطفي، وازدهار لون على حساب غيره من الألوان، في رأي يوسف إدريس، يؤدي إلى انحراف، ونحن حقيقةً في عصر الانحراف المريض نحو الأغنية العاطفية.
والأغاني العاطفية كما يراها يوسف إدريس هي ذلك النوع الذي يخاطب كل ما فينا من ضعف ومراهقة وإحساس بالوحدة ليثير فينا الضعف والمراهقة والإحساس بالوحدة! ولقد ظل هذا اللون سائدًا إلى أن بدأ يدور في حلقة مفرغة، ويلجأ أصحابه إلى الاقتباس والتقليد وافتعال التجديد، ذلك لأن الطريق الطبيعي لتطور الأغنية وتنفسها هو المسرح الغنائي، حيث الأغاني في الأوبرا والأوبريت تخاطبنا كجماعة، ونسمعها كجماعة، وترسم ملامحنا وتعبِّر عنَّا كشعب، ومن خلالها فقط نستطيع أن نجد التعبير المتطور الناضج عن أنفسنا وحياتنا بكل رحابتها واتساعها.
«نحن في حاجة عظمى إلى المسرح الغنائي، إلى الأوبريت».. وأعلنها يوسف إدريس صريحة لهؤلاء الذين ينتظرون في حُسن نية وطيبة أن يفرغ عبد الوهاب من تلحين أوبريته الأول: «أقول لهم: عبثًا ما تفعلون، ولا تطلبوا من عبد الوهاب المستحيل، فهو أولًا ليس ملحن أوبرا أو جماعات، وهو ثانيًا لا يمكن أن ينحِّي نفسه بيده عن العرش الجالس عليه!».
وهكذا طالب يوسف إدريس بأن نعهد بالتلحين، إذا كنّا جادِّين، إلى موسيقار إذا فرضنا جدلًا أنه ليس له شهرة عبد الوهاب ونبوغه، فيكفي أنه سيوجِد اللون، وسيبدأ، ومن خلال هذه البداية نستطيع أن ننهض ونعرف أخطاءنا ونسير، إذ لا بد أن نسير ولا يمكن أبدًا أن نقف جميعًا، نردد التأوهات!
كتب أحمد حمروش حينها يستنكر ما قاله يوسف إدريس عن الموسيقار محمد عبد الوهاب والأوبريت واصفًا طريقته بأنها تشبه طعن الخناجر والسكاكين، معتقدًا أنها نوع من مهاجمة الفنانين المشهورين طلبًا للشهرة ربما، مؤكدًا أن عبد الوهاب غير مسؤول أو مقصِّر.
فردَّ عليه يوسف إدريس في مقال تالٍ بعنوان «مرة أخرى... عبد الوهاب والأوبريت» قال فيه: «ورغم علمي بأن الصديق أحمد حمروش قليل الأخطاء، فإني أعتقد أنه في حماسه للدفاع عن عبد الوهاب قد تورط في عدد منها، فهو قد أخطأ مثلًا حين تصور أنني (هاجمت) عبد الوهاب. إن الهجوم لا يكون إلا بتحامل على شخص بلا سبب واضح، فرق كبير بين هذا وبين نقد شخص ما ولأسباب حقيقية وواقعة، خصوصًا إذا كان هذا الشخص فنانًا كبيرًا كعبد الوهاب له أثر بالغ الخطورة في موسيقانا وتطورها، ومن هذه الزاوية تحدثت عن عبد الوهاب، إذ إن شخصه لم يكن في اعتباري مطلقًا وأنا أكتب، لقد قلت ما قلت وأنا أُبدي وجهة نظر في المسرح الغنائي بماضيه وحاضره ومستقبله. وإن كنت قد تعرضت لعبد الوهاب فلأن عبد الوهاب هو الذي عرض نفسه وأخذ على عاتقه مهمة تلحين أوبريت لهذا المسرح».
لو كان عبد الوهاب قد لحنه لكان يوسف إدريس أول المصفقين له والمهللين، ولكن عبد الوهاب لم يقم بهذه المهمة ولم تكن هذه أول مرة تتعالى فيها الأصوات مطالبةً بالأوبريت ويأخذ عبد الوهاب على عاتقه مهمة تقديمه، ولا يقدمه!
فقد طلب يوسف إدريس ممن يهمه الأمر أن يراجع الصحف خلال ربع القرن السابق على تصريحات عبد الوهاب، ليجد أنه في كل مرة قامت ثورة فنية تطالب بالأوبريت كان عبد الوهاب على رأس المؤيدين لها المتطوعين لتقديمها، وتكون النتيجة أن تسكت الأصوات ولا تلبث أن تهدأ الضجة وتموت.
ويتساءل يوسف إدريس: «أليس لي الحق بعد هذا أن أتصور الوضع على أن عبد الوهاب غير جاد في وعده هذه المرة؟ أيعدُّ تصوري حينئذ طعنًا في عبد الوهاب وانتقاصًا من شأنه؟ إن الطعن في عبد الوهاب يكون بنقد نوع الموسيقى والألحان التي يقدمها فعلًا، أما أن نقول إن عبد الوهاب ليس ملحن أوبريت فليس طعنًا فيه أبدًا إلا إذا كان عدم الكتابة للمسرح يعد طعنًا في نجيب محفوظ، وعدم التأليف للسينما يعد طعنًا في توفيق الحكيم، إنه ليس طعنًا ولا انتقاصًا، لسبب بسيط، أنه حقيقة واقعة، إذ الحقيقة أن عبد الوهاب قد لحَّن مئات الأغاني والمواقف العاطفية ولكنه لم يلحن أوبريتًا واحدًا، إذا كانت المطالبة بأن يعهد لموسيقار آخر كأحمد صدقي أو عبد الحليم نويرة أو غيرهما من الموسيقيين بمهمة تلحين الأوبريت، فلسبب بسيط أيضًا، أنهما لحّنا أوبريتات فعلًا، وقُدمت على المسرح وشاهدها الناس».
واتفق يوسف إدريس مع أحمد حمروش في أن ذكر هذه الحقائق قد يضايق الموسيقار الكبير وقد يؤذي شعوره، ولكنّ أحدًا لم يرغم عبد الوهاب، وأنه هو الذي تطوع للمهمة وقَبِلها، فإذا كان في محاسبته جرح لشعوره، فماذا كان يريد حمروش من المتحمسين الغيورين على مسرحنا الغنائي أن يفعلوا؟ أيصمتون هم الآخرون مراعاةً لشعور عبد الوهاب أم يتكلمون؟ وإذا تكلموا، ماذا كان عليهم أن يقولوا غير ما قال يوسف إدريس؟
لقد أحس إدريس بالأسى، وتمنى أن يسمع ويشهد أوبريتات من تلحين عبد الوهاب، بل ربما هذه الأماني هي التي دفعته لقول ما قال، وهي التي دفعته أيضًا لأن يسأل نفسه ويستقصي كما أوصاه حمروش، فقابل الدكتور علي الراعي مدير مؤسسة دعم المسرح، والأستاذ عبد الرحمن الخميسي مؤلف أوبريت «مهر العروسة» وسألهما، ولكن السؤال أدخل إدريس في دائرة مفرغة، فالدكتور علي يقول إن عبد الوهاب يعتذر في الاجتماعات بأن نص الأوبريت لم يصل إليه، والخميسي يقول إنه قد انتهى من فصلين وسلم عبد الوهاب الفصل الأول كله ولكنه لم يلحن إلا ثلاث أغنيات منه في مدى عام ونصف، وإنه ظل يتردد على عبد الوهاب أكثر من ستة أشهر ليتفق معه على الأغنيات والمواقف، وكان عبد الوهاب كثيرًا ما يعتذر إليه بتوعكه أحيانًا ومشغولياته الكثيرة أحيانًا أخرى، ثم يبادر الخميسي ويستدرك قائلًا: «ولكني أنا المسؤول... عبد الوهاب غير مسؤول مطلقًا وأنا المسؤول»، ولا يتفق كلامه الثاني مع كلامه الأول، والنتيجة دائرة مفرغة يمكن أن تظل إذا دخلناها عامًا وعامين وعشرة أعوام في انتظار أن ينتهي عبد الوهاب من تلحينه لـ«مهر العروسة»!
لقد راهن يوسف إدريس، وكتب أنه سيكون أسعد الناس بأن يخسر لو لحَّن عبد الوهاب الأوبريت، لقد ظل متعلقًا بهذا الأمل والرجاء، ولكنه أدرك أن الكارثة الخطيرة هي أن نظل واقفين لا نتحرك أمام هذا الأمل، الكارثة أن نظل بلا أوبريت إذا لم يلحنه عبد الوهاب.
وأوضح: «إن عبد الوهاب نفسه لا يمكن أن يقبل وضعًا كهذا، ولا بد أنه يرى معي ومع الكثيرين أن تُعطى الفرصة لآخرين بجواره، وإني لفرط ثقتي في غيرته على موسيقانا ومسرحنا الغنائي لَمتأكد أنه سيكون أول المرحبين بمسابقة عامة حرة تُرصد لها جائزة ضخمة تعادل جوائز الدولة التقديرية -أو حتى أكثر- يتقدم إليها كل من شاء، وتكون محدودة بموعد وشروط، وإني لعلى يقين من أن مسابقة كهذه لا بد ستكشف عن مواهب كامنة، سواء في موسيقيينا الشبان المعروفين أو غير المعروفين، فإذا كان مجرد برنامج للهواة قد كشف لنا عن موسيقار كأبو بكر خيرت، فمن باب أولى أن تتيح هذه المسابقة فرصة أوسع لعدد أكبر».