رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«عزومة الفتنة».. تفاصيل «خناقة الأصدقاء» على موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب

الموسيقار محمد عبد
الموسيقار محمد عبد الوهاب

لم تكن فترة ظهور المطرب والموسيقار محمد عبد الوهاب في أوائل القرن الماضي، المليئة بالحب والود بين الكتاب والأدباء والشعراء بعضهم البعض، لكنها كانت ممتلئة بالمشاحنات، والمشاجنات، والمعارك الفكرية على صفحات الجرائد، وهو ما كان واضحًا بين الشاعر أحمد شوقي مكتشف ومتبني عبد الوهاب، والشاعر إبراهيم عبد القادر المازني، والكاتب الكبير عباس العقاد.

وشهدت بداية الموسيقار والمطرب الكبير محمد عبد الوهاب، العديد من الكواليس والأسرار، التي من بينها خناقة الكبار عليه، وهو ما كشفه كتاب «عرفت عبد الوهاب» لـ «كامل الشناوي» الصادر عن المكتب المصري الحديث منذ أكثر من ثلاثين عامًا، في فصل جاء بين دفتيه بعنوان «خناقة بين شوقي والعقاد والمازني حول عبد الوهاب».

وبدأ الحديث في ذلك الفصل: «في حوالي عام 1924 بدأ نجم عبد الوهاب يلمع، وكان شوقي وراء هذا اللمعان، وكان يمد الصحف بأخبار عبد الوهاب، وبالعبارات التي تشيد بصوته وموهبته، وكانت المعركة على أشدها بين شوقي وخصومه من الأدباء والنقاد، وظهر  في ذلك الحين كتاب «الديوان» للكاتبين الكبيرين عباس العقاد، وإبراهيم عبد القادر المازني، وقد تناول هذا الكتاب شعر شوقي وشخصه، وتاريخه، وحياته، بالهجوم والنقد والتجريح.

وكان أنصار شوقي يتعصبون له ضد خصومه، فكل ما يمت لهؤلاء الخصوم بصلة سخيف في نظر أصدقاء شوقي، وكان أعداء شوقي يتعصبون ضده، فالحسن عنده قبيح عندهم، وما يراه صوابا يرونه خطأ، والصوت الذي يعجبه ليس إلا حشرجة، وبلبله الصغير ليس إلا غراب.

وأخذ «المازني » يهاجم المطرب الناشئ في جلساته الخاصة، ويقول إن صدر عبد الوهاب ضيق، وهو لا يصلح لأن يكون مغنيا، ولكن يصلح فقط لأن يكون مريضا، وكان «المازني» لم يسمع عبد الوهاب شخصيا، وأراد أحد أصدقاء عبد الوهاب أن يحميه من هجوم المازني، فأقام حفلة خاصة دعا إليها المازني والعقاد، وغني عبد الوهاب في الحفلة، وأبدى العقاد إعجابه بصوت عبد الوهاب وقال إنه لا عيب فيه إلا إعجاب شوقي به، وإن صوته قوي عذب جذاب، ووافق المازني على هذا الرأي، ونظم العقاد قصيدة قال فيها:

إيه عبد الوهاب إنك شاد.. يطرب السمع والحجى، والفؤادا

قد سمعناك ليلة فعلمنا.. كيف يهوى المعذبون السهادا

وأعدت الحديث في كل لحن.. فعشقنا من الحديث المعادا

وتفينا الرقاد عنا الأنا.. قد حلمنا، وما غشينا الرقادا.

وتعد تلك العزومة شرارة إنطلاق الحرب، أو المعركة بين الثلاثة الكبار، من أجل عبد الوهاب، حيث كتب المازني يصف الليلة التي سمع فيها عبد الوهاب فقال: «من أمتع ما مر بي في هذه الحياة - التي لا أراها ممتعة ولا أحب أن تطول أو تتكرر - ليلة قضيتها بين شراب وسماع: أما الشراب فلعل القارىء أدرى به! وأما السماع فقل "من شجي به كما شجيت في تلك الليلة - أي والله .. ومازلت إلى الساعة - كلما خلوت بنفسي – أغمض وأتسمع، وأحاول أن أبتعث ذلك الصوت البديع إلى ما بي، كمال جنی صوت سواه، ولقد أعجب لما يصب في الأذن أين يذهب ؟ وربما! الذي هاجنی، أثارني هذا العجب، فأعجز عن إحياء صوت بأكثر من تصوره في ضمير الفؤاد، وقد أغالي في إكبار هذه الثروة الصوتية، وأتمنى لو رزقت شيئا منها بكل ما لى- لو أن لي شيئا! - ثم أعود فأسخر من نفسي، وأضحك من أمنية يستخفنی إليها الطرب العارض.. ثم أسخر من سخري وأقول لنفسي في حدة : أو الايسر الاسكندر وقيصر وسليمان أن ينزلوا لمثلى عن نصف ما أحرزوا من مجد لو أنه وسعنی أن أخول کلا ليلة واحدة كهذه الليلة التي نعمت بها! كأني لم أكن أسمع، بل أسقي من رحيق الجنان، وكأنه لم يكن غناء مصوغا من شجي القلوب، بل من شعاع العقول.

وهكذا أمتعنا عبد الوهاب بصوته في ليلة كانت كلها سحرا، وردني بعدها بغير ذي أذن إلى كل نغمة من سواه وغير ذي صوت إلا إلى فتنة من هوى فنه وشجاه، ولولا أن تعد ذلك جحودا ولوما ، لتجاوزت عن ذكر اسمه، فإنه أحلى عندى وأوقع في نفسي أن أجرد غناءه من صورته الآدمية على حسنها النرجسي، وأن أتصوره أبدا هوى سابعا، وروحا هائما، وصوتا صافية».

وقد فرح شوقي بما كتب المازني وما نظمه العقاد في الإشادة بعبد الوهاب، وعد ذلك نصرا شخصيا له فقد كان عبد الوهاب عاطفة في قلبه، وفكرة في رأسه ، ونورا في عينيه، ولكن بعض أصدقاء شوقي نجحوا في إقناعه بأن إشادة المازني والعقاد بعبد الوهاب ستجعله ينضم إليهما، وأن البلبل الصغير قد بني له عشا في قلب المازني، وعشا في قلب العقاد.

وإذا بشوقي يستعدي بعض الصحف على المازني والعقاد، ويجعلها تهاجمهما في موضوع عبد الوهاب بالذات، فكتب المرحوم حسين شفيق المصري مقالا نقد فيه قصيدة العقاد، وقال: «هل أراد العقاد أن يمدح عبد الوهاب أم أراد أن يذمه؟ إنه يقول: قد سمعناك ليلة فعلمنا.. كيف يهوي المعذبون السهادا، إذن لم تكن ليلة طرب، بل كانت ليلة شقاء، إن عبد الوهاب لم يشج الشاعر، ولكن أشقاه وسامه سوء العذاب، وكيف يتفق هذا الشقاء والعذاب مع وصف الشاعر للمغني بأنه أطرب السمع والحجى والفؤاد؟

وكتبت جريدة «الكشكول» كلمة تحت عنوان (هجاء في مدح) قالت فيها: سأل إعرابي أحد المغنين: ما الغناء؟ فأراد المغني أن يرى الإعرابي كيف يكون الغناء، فأخذ يتغنى بأبيات من الشعر ويهتز ويلقي برأسه إلى الوراء ثم يتعدل، ويتجمد وجهه، وتلعب عيناه فقال الإعرابي: «والله يا أخي ما يفعل بنفسه هكذا عاقل».

وتابع في المقال: «وقد صدق، ولم نرى من استلمح هذه البشاعة من المغنين غير المازني، فقد كتب فصلًا عن المغني النابغة محمد أفندي عبد الوهاب، قال فيه إنه تناول العود وأصلحه، واستعد للضرب عليه، يرفع رأسه حتى يمس ظهر الكرسي ويرسل طرفه إلى الفضاء».

وعقبت الكشكول قائلة: «وتلك أوصاف مفتراة ظنها المازني مما يحمد من المغنين، فوصف بها عبد الوهاب، وعبد الوهاب منها براء».

ثم قالت الكشكول: «ولا نرى المازني - أخزاه الله – وصف مغنيا، ولكنه وصف قردًا، وخيل إليه أنه يمدح وهو يهجو، ولا شأن لنابه، فلينظر عبد الوهاب كيف جزاء من يطرب الحمقى والجهال، فلا يكافئونه بغير إلحاقه بالقرود».

ولما ظهرت الكشكول وفيها هذا الكلمات، أخذ شوقي يبدي إعجابه بها متسائلا عن كاتبها من يكون، ويجيب عن تساؤله قائلا: إنه ليس أديبا فقط، ولكنه أديب وموسيقى ويفهم علم النفس، وكان يقول ذلك موجها الكلام لعبد الوهاب.

وكان شوقي هو من أملى هذه الكلمات على أحد محرري الكشكول، ليبعد عبد الوهاب عن المازاني والعقاد، وقد نجح في ذلك فابتعد المازاني عن عبد الوهاب، واكتفى العقاد بنشر قصيدته عن مطرب الحجى والفؤاد في جردية «البلاغ»، ورفض أن يسجلها في أي ديوان من دواوين شعره.