فى ذكرى 23 يوليو «2-2»
رأينا فى المقال السابق مدى استمرارية الجدل حول طبيعة ما حدث فى ٢٣ يوليو، هل هو ثورة أم انقلاب؟ وقد يبدو السؤال فى حد ذاته عبثيًا، خاصةً أن يُطرَح هذا السؤال بعد مرور ٦٩ عامًا على هذا الحدث المهم فى تاريخنا، لكن فى حقيقة الأمر لا تزال هناك قوى سياسية وتيارات فكرية تطرح هذا السؤال حتى الآن.
ولقد مر بنا موقف الوفديين، وأغلب التيارات الشيوعية، ولن أحدثكم عن موقف جماعة الإخوان من ٢٣ يوليو؛ إذ تنظر هذه القوى جميعها إلى هذا الحدث على أنه انقلاب، وتطور عكسى فى مسيرة التاريخ المصرى.
واستلفت انتباهى صدور الرواية الجديدة للكاتب الكبير إبراهيم عيسى، وهى عن ٢٣ يوليو، وهى رواية توثيقية إلى حد كبير، وتحمل عنوانًا ذا شجون «كل الشهور يوليو»، وبالقطع لا تصدر أى رواية تاريخية من فراغ، وإنما هى فى حد ذاتها محاولة لمراجعة الماضى، لفهم الحاضر، وربما العبور إلى المستقبل. ومَن يقرأ رواية إبراهيم عيسى ربما يخرج بانطباع أن مصر كانت تتجه بعد هزيمة ٤٨ إلى نوع من الملكية الدستورية على النسق الإنجليزى؛ إذ تدهوت شعبية الملك فاروق، وتهاوت معها هيبة النظام الملكى القديم، وعاد الوفد قويًا، خاصة بعد إلغاء مصطفى النحاس معاهدة ١٩٣٦، ومقولته الشهيرة: «من أجل مصر عقدت المعاهدة، ومن أجل مصر أُلغى المعاهدة». لكن حريق القاهرة فى ٢٦ يناير ١٩٥٢، هذا الحدث الغامض فى التاريخ المصرى، أطاح بأمل الوفد فى البقاء، وربما أطاح بفكرة الوصول إلى ملكية دستورية، وأحدث حالة من الفراغ السياسى، وربما عَجّل بـ٢٣ يوليو.
جميل أن تقوم الأمم بمراجعة تاريخها، فهذا مطلوب خاصة عند اللحظات الفارقة فى تاريخها، لكن الأسوأ هو أن تعيش الأمم فى كهف التاريخ، ولا تخرج منه، فنحن ندرس التاريخ لكى نتجاوزه، لا أن نعيش فيه. وأتذكر مقولة المرحوم أحمد عبدالله رزة بمناسبة عقده ندوة فى الثمانينيات لمراجعة تاريخ مصر المعاصر؛ إذ قال أحمد عبدالله مقولته الشهيرة: «الحرب بسيوف التاريخ».
ولكى أوضح الفكرة أكثر نتذكر الحالة الأوروبية، هذه القارة التى دخلت فى حربين عالميتين التهمتا الأخضر واليابس، وراح ضحيتهما ملايين البشر، لكن أوروبا درست هذه المحنة دراسة تاريخية جيدة، وتجاوزت هذا التاريخ إلى حلم الاتحاد الأوروبى، ولم نعد نسمع فرنسيًا يتنابز مع ألمانى بهزيمة ألمانيا فى الحربين؛ إذ دخلت هذه الأحداث مكانها الطبيعى وهو كتاب التاريخ، حتى يتفرغ الناس لمواجهة الحاضر وصناعة المستقبل.
تعالوا إلى كلمة سواء: ٢٣ يوليو هو العيد الوطنى لمصر، مثلما ١٤ يوليو «الثورة الفرنسية» هو العيد الوطنى لفرنسا، ولا يستطيع أحد تجاوز هذه الأحداث لأنها أصبحت تاريخًا، دعوا الجدل حول الأحداث يدخل فى مجال التاريخ، ولتتفرغ القوى السياسية والتيارات الفكرية لمشاكل الحاضر، وكيفية العبور إلى المستقبل.