فى ذكرى 23 يوليو «1-2»
تهل علينا هذه الأيام ذكرى ٢٣ يوليو ١٩٥٢، وننبه منذ الآن أننا فى العام المقبل سنحتفل بمرور سبعين عامًا على هذا الحدث الكبير فى تاريخنا. وأتمنى أن يكون الاحتفال على قدر الحدث وأهميته، ولا أقصد بالاحتفال مجرد إعداد أغانٍ ولقاءات- على أهمية ذلك- ولكنها فرصة ثمينة لمراجعة تاريخنا بهدوء، خاصة بعد مرور هذه العقود الطويلة، وظهور أجيال جديدة، ربما لم تعرف النقاش الهادئ حول التاريخ، إلى درجة أنها ضجت من ذلك وكادت أن تنسحب إلى عالمها الخاص.
وربما انتبه البعض إلى أننى ذكرت ٢٣ يوليو فى العنوان دون توصيف محدد، فعادةً ما يسبق ذكر ٢٣ يوليو كلمة ثورة، وفى المخاطبات الرسمية فإن المصطلح المستخدم هو ثورة ٢٣ يوليو. وفى الحقيقة لا أستطيع أن أخفى تعمدى وراء اختيار العنوان على هذا النحو، الذى قد يبدو باردًا، ولا يحمل توصيفًا معينًا لما حدث فى هذا اليوم المشهود فى تاريخنا، يوم ٢٣ يوليو ١٩٥٢.
لقد حاولت أن نبدأ نقاشًا هادئًا من نقطة البداية، لنتعلم جميعًا حرية الحوار، وعدم الانغلاق على الذات، وأهمية الرأى والرأى الآخر، ومع قدوم ذكرى ٢٣ يوليو تشتعل وسائل التواصل الاجتماعى بطرح السؤال «المشكلة»: هل ٢٣ يوليو ثورة أم انقلاب؟!
ومن الغريب أننا حتى الآن ندخل فى مشادات كلامية حول هذا السؤال، رغم أن الأمر قد أصبح فى ذمة التاريخ، وهناك أسلوب وآداب للنقاش التاريخى، لكننا حتى الآن نشاهد معارك كلامية كلما اقتربت ذكرى ٢٣ يوليو، والغريب أن بعض هؤلاء من كبار المفكرين أو الناشطين السياسيين. لقد شاهدت مشادة كلامية بين بعض الأصدقاء الأعزاء حول هذا الأمر، على صفحات «فيسبوك»، انتهت بتوجيه الإهانات المتبادلة، والاتهام بعدم الفهم، بل والانغلاق الفكرى، أو عبادة الصنم! وما هكذا يكون الجدل التاريخى.
يعوّدنا التاريخ على النقاش الهادى، وتَقَبُل الآراء الأخرى، وكم من مرة دربت طلابى على هذا النقاش فى قاعات المحاضرات، وبالقطع استخدمت نموذج ٢٣ يوليو. وعندما يسألنى بعض طلابى عن حقيقة ما حدث فى ٢٣ يوليو، كان جوابى لا بد أن نُدرب أنفسنا على تعدد الروى حول الحدث الواحد.
فإذا سألت أحد الوفديين- نسبةً إلى حزب الوفد- حول طبيعة ما حدث فى ٢٣ يوليو، فبالقطع لن تكون الإجابة فى صالح أن ما حدث فى ٢٣ يوليو، أو أن ما حدث كان ثورة، وربما يتمادى البعض فيرى أن ٢٣ يوليو انقلاب على التجربة الليبرالية فى مصر التى بدأت بعد ثورة ١٩ ومع دستور ١٩٢٣، بل ويرى البعض الآخر من الوفديين أن ما حدث فى ٢٣ يوليو كان بمثابة قطيعة مع التاريخ، وأن مصر كانت تتجه نحو ملكية دستورية على النسق الإنجليزى، وأن «انقلاب» ٢٣ يوليو كان ضربة لحركة الاستمرارية التاريخية.
وإذا وجهت السؤال إلى تيار اليسار الماركسى المصرى، فإن أغلب هؤلاء سيذكرنا بأن ٢٣ يوليو كانت انقلابًا على الديمقراطية، وأوقفت الثورة الشعبية التى كانت مصر حبلى بها، وأن الأوضاع الاجتماعية فى مصر كانت ترشح مصر لتكون رائدة التجربة التقدمية فى المنطقة، لولا حظر يوليو لحرية الأحزاب وتأميم الحياة السياسية، هذا فضلًا عن اعتقال الشيوعيين لسنوات طويلة.
وبالقطع إذا وجهت السؤال إلى أحد أتباع جماعة الإخوان، سيقول لك إن ما حدث هو انقلاب عسكرى علمانى ضد الحركة الإسلامية الصاعدة، وإن أمر مصر كان سيؤول للجماعة لولا تدخل الضباط الأحرار. وبالقطع يتناسى هؤلاء شهر العسل القصير من ١٩٥٢ إلى ١٩٥٤، وأن غباء الإخوان ورغبتهم فى الحكم كانت هى السبب الرئيسى وراء أحداث ١٩٥٤ وحل الجماعة وإعدام قادتها بعد محاولة اغتيال عبدالناصر.
أما بالنسبة للتيار الناصرى، فهى ثورة بامتياز، عبرت عن تحالف قوى الشعب العاملة وكانت رمزًا للكرامة الوطنية، وجعلت مصر كعبة القومية المصرية، وأن ١٥ مايو ١٩٧١ كانت ردة على مبادى ثورة ٢٣ يوليو.
والآن ماذا حدث فى ٢٣ يوليو ١٩٥٢، وهل هى ثورة، أم حركة، أم انقلاب؟
هذا ما سنناقشه فى الأسبوع المقبل.