«حياة كريمة».. حين تصطاد الدولة خمسة عصافير بمشروع واحد
المبادرة لها هدف اقتصادى وسياسى وحقوقى وشبابى وأخلاقى معًا
الشباب يسهمون فى تحقيق العدالة الاجتماعية بالعمل والإصلاح والتعاون مع الدولة
أكتب قبل ساعات قليلة من بدء مؤتمر الإعلان عن مشروع حياة كريمة، كتبت عن المشروع أكثر من مرة، وأرى أنه واحد من أهم المشروعات فى تاريخ الدولة المصرية الحديثة منذ عهد محمد على وحتى الآن.. للمشروع بُعد أخلاقى لا جدال فيه، وبعد حقوقى لا خلاف حوله، وبعد سياسى واضح، وبعد اقتصادى يفيد جميع المصريين، وبعد شبابى أيضًا وهو بهذا يضرب خمسة عصافير بمبادرة واحدة، ولا شك أن هذا دليل «حذق» سياسى واضح، وقراءة عميقة للتاريخ، تستحق التحية، والإشادة والتقدير.. أما العصافير الخمسة التى تضربها الدولة المصرية بمبادرة واحدة فهى كالتالى.. أول أهداف المبادرة من وجهة نظرى الخاصة هدف سياسى.. يقول للمصريين إن الدولة التى طال غيابها عن الشارع طوال الخمسين عامًا الماضية عادت لهم.. وأنها تجاورهم فى قراهم ونجوعهم.. تبنى لهم مراكز الخدمات الصحية، والمدارس، والمشروعات الإنتاجية.. عادت الدولة لتمارس دورها فى رعاية مواطنيها.. بعد سنوات من الفراغ ملأها المتطرفون، وتجار الدين، والمتمولون من الخارج الذين راحوا يبنون المستوصفات، والمراكز التعليمية، ويشترون ولاء الناس بمرتبات وإعانات اجتماعية، بينما الدولة وقتها صامتة، أو متواطئة أو عاجزة.. ولعل أولى رسائل السياسة فى «حياة كريمة» أن الدولة عادت بقوة لحياة المصريين، ليس من خلال الأمن فقط، ولكن من خلال خدمة مواطنيها وإيفائهم حقوقهم.. والمعنى الأول أن الدولة «قادرة».. أما المعنى الثانى فهو أن الدولة «عادلة».. والمقصود هنا هو العدل الاجتماعى.. الذى اختلت موازينه فى بعض الأوقات.. فالدولة تأخذ الضرائب من الأثرياء لتمول مشروعات تخدم المنسيين والبسطاء والملايين فى قرى ونجوع مصر.. وإلى جانب الضرائب فهى تشجع المجتمع المدنى على التبرع.. وإعادة ترتيب الأولويات.. وفوق كل هذا هى تتكفل بتدبير المليارات اللازمة للمشروع من طرق شتى بشكل يجعل الناس يسألون حاليًا.. من أين تأتى الدولة بالنقود؟ بعدما كانوا يسألون قبل سنوات.. أين تذهب النقود؟
العصفور الثانى الذى ضربته مبادرة حياة كريمة هو العصفور الاقتصادى، حيث تنزل الدولة بثقلها لتقاوم الكساد، وتضع أكبر حزمة استثمار عام لتشغيل الاقتصاد المصرى، فلا أحد يكابر الآن أن صانع القرار قارئ جيد للتاريخ.. ودارس لتجارب الدول.. إن نزول الدولة باستثمارات ضخمة لمقاومة الكساد هو وصفة مجربة لإنعاش الاقتصاد.. وقد كان أول من طبقها الرئيس الأمريكى روزفلت الذى جاء إلى الحكم والاقتصاد الأمريكى يعانى من أزمة ضخمة عرفت باسم «الكساد الكبير» عام ١٩٢٩ وكان الحل الذى استخدمه هو نزول الدولة الأمريكية بثقلها للاستثمار فى المشروعات الكبرى، حيث سحب الودائع الفيدرالية فى بنوك العالم واقترض، وسيل الأصول ونزل للسوق بأكبر كمية سيولة مالية يمكن تخيلها.. فتدفقت الدماء فى شرايين الاقتصاد الأمريكى.. وخرجت البلاد من الأزمة.. إن شيئًا من هذا يحدث فى مصر منذ تولى الرئيس السيسى.. الدولة تضخ استثمارات ضخمة فى الآلاف من المشروعات، لتقاوم ظروف الكساد، وتدلل الاستثمارات الأجنبية التى تضاعفت فى مصر مع تولى حكومة رجال الأعمال فى ٢٠٠٤.. ثم انسحبت عندما لم يعجبها الحال.. ولا شك أن ضخ ٧٠٠ مليار جنيه فى الاقتصاد المصرى هو إنعاش لكل المصريين حيث سيعمل الملايين فى مشروعات البناء، وتنتعش مصانع الطوب والحديد والأسمنت والكهرباء والسباكة.. إلى آخر ما يلزم الانتهاء من هذه النهضة العمرانية الشاملة فى الريف المصرى.
أما العصفور الثالث الذى تضربه المبادرة، أو الهدف الثالث الذى تحققه فهو هدف حقوقى.. يلبى الحقوق الاجتماعية والاقتصادية للمصريين.. والحقيقة أن الرئيس السيسى يؤمن بمنظومة الحقوق الاجتماعية، ويتحدث عنها كثيرًا فى خطاباته ويسعى لتحقيقها بأكثر من صورة، ويطرحها فى مواجهة الحقوق السياسية، والحق فى التعبير، وهى حقوق تؤمن بها الدولة المصرية.. لكنها لا تؤمن بالاستخدام السياسى لها ولا باستخدامها فى الضغط على الدول، أو خلق نخب موالية للجهات الغربية المانحة داخل المجتمع المصرى.. البعد الحقوقى فى المبادرة يتمثل أيضًا فى الاستجابة لأهداف الأمم المتحدة فى مقاومة الفقر والقضاء عليه ومحاربته بكل طريقة ممكنة.
يبقى العصفور الخامس.. وهو البعد الشبابى لهذه المبادرة.. حيث هى فكرة شبابية تم طرحها فى مؤتمر الشباب عام ٢٠١٩، وتمت الموافقة عليها، وتشجيعها، وتحولت المبادرة لمؤسسة، وتبناها الرئيس عبدالفتاح السيسى ودبّر التمويل اللازم لها.. لتتحول من مبادرة تعمل فى ٣٢١ قرية تقريبًا لمبادرة تستهدف ١٢٠٠ قرية، بالإضافة للنجوع والعزب التابعة لها، وأظن أن المبادرة ستتسع لتشمل مزيدًا من القرى.. كما أنها تتحول من مبادرة لتقديم الخدمات إلى مبادرة للتنمية المستدامة، والمشروعات الصغيرة، والتمكين الاقتصادى للفقراء.. إن البعد الشبابى فى هذه المبادرة يستوعب طاقة الشباب.. ويحولها للبناء بدلًا من الهدم.. ولا أبالغ إذا قلت إنه يقنع الشباب أن يحققوا بطريق الإصلاح ما كان البعض يزين لهم أن يحققوه بطريق الثورة، وإسقاط مؤسسات الدولة، بحثًا عن حلم مجرد بالعدالة وعن مجتمع مثالى.. إننى لا أُبالغ إذا قلت إن هذه المبادرة إذا أُحسنت إدارتها تحقق هدفًا رئيسيًا من أهداف ثورة ٢٥ يناير والتى عبرت عن نفسها بشعار «عيش.. حرية.. كرامة إنسانية».. لكنه يحققه عن طريق الإصلاح والتعاون مع مؤسسات الدولة بدلًا من هدمها، وتوحيد الجهود لتحقيق حلم النهضة المصرى.. والإصلاح من وجهة نظرى هو الطريق الوحيد لمصر الذى لا بديل عنه للاستمرار والاستقرار.. فتحية لحياة وللرؤية العميقة التى تقف وراءها.