«ذَكر شرقى منقرض».. كيف تُرضى الجمهور وتصدمه فى الآن ذاته؟
محمد طه: الموروثات الثقافية تدعم هيمنة الذكر على الأنثى وتفرض على المرأة الرضوخ للذكر والاستجابة لأوامره ونواهيه
«الأفضلية» ليست هى المعيار الذى يمكن استشفافه من اعتلاء بعض الكتب قوائم «الأكثر مبيعًا»؛ فثمة عوامل أخرى صارت تدفع كثيرًا من الكتابات نحو تلك المكانة، على رأسها مدى الترويج الذى يحظى به العمل، وهو دور لم يعد مقتصرًا على دور النشر وإنما باضطلاع الكاتب نفسه بمهمة التواصل عبر مواقع التواصل الاجتماعى مع المتابعين له يُحقق لكتاباته رواجًا يتجاوز فى كثير من الأحيان جهود دور النشر.
«ذكر شرقى منقرض» هو عنوان الكتاب الصادر عن «دار الشروق» للطبيب النفسانى محمد طه، الذى سبق وأصدر ثلاثة كتب أخرى هى «لأ بطعم الفلامنكو»، «الخروج عن النص»، «علاقات خطرة»، لاقت الكتب الأربعة رواجًا كبيرًا جعلتها فى منافسة مع أعمال روائية، وتجتذب فئات واسعة من الشباب تبحث عن كتابات جذابة وبسيطة.
فى هذا الكتاب، يسلك أستاذ الطب النفسى مسار الكتابة ذاته؛ اللغة العامية التى تجعل الكتاب أشبه بجلسات وديّة غير مُرهقة ذهنيًا لقارئ يؤثر ذلك، فضلًا عن الكثير من إجابات المُتابعين على «فيسبوك» عن أسئلته ومقاطع فنية فى الدراما أو الأغانى أو الإعلانات التى أوردها لتأكيد أفكاره وأطروحاته فى شكل يعزز صورة الحديث الودى التى يبنى عليها الكاتب حججه واستشهاداته.
يرى الكاتب أن هذه المواد التى استند إليها فى تحليلاته مادة ثريّة لكشف طبيعة الأفكار المتغلغلة فى المجتمع، ومع أنه لا خلاف على هذا، فإن قارئًا غير مُتعجل قد ينتظر تحليلًا نفسانيًا مُعمقًا وليس مجرد نُتف مألوفة، وقد يرجو حلولًا أكثر تأنيًا، لذلك الفكر المتردى الذى وصَّفه الكتاب، لكنه سيُرد خائبًا، وسيكتشف أنه فقط قد قرأ توصيفات لأمراض اجتماعية يُعاينها كل يوم واستقبل نصيحة مُطولة وبديهية من الكاتب فى نهاية المطاف بضرورة مراجعة الأفكار الموروثة.
يُشير الكاتب فى غير موضع إلى الاستغلال الذكورى للمُتشابه من الآيات لترسيخ السُلطة الذكورية، رغم وجود رحابة فى التفسيرات للنصوص الدينية واستناد فى كثير منها إلى تقدير وتعويل على ظروف الزمان والمكان، التى أحاطت بنزول النص الدينى، بما يعنى أن كثيرًا منها غير صالح لكل زمان ومكان، ومع ذلك تظل النسخة الذكورية من الدين هى الأكثر رسوخًا.
ويذكر دور العُقد التى تترسخ فى الطفولة فى تأسيس العقلية الذكورية، مستندًا فى ذلك إلى ما ذكره فرويد عن «عقدة أوديب» ليُبيّن أن الذكر الشرقى ما زال مُثبتًا فى مرحلة نفسية من طفولته تجعله راغبًا فى أن تكون زوجته أشبه بالأم حينًا وبالابنة حينًا آخر؛ فهو يبحث عمَّن تمنحه حبًا واهتمامًا ورعاية بلا تذمر، وفى الآن ذاته يُمارس عليها سُلطته كطفلة تحتاج الإرشاد والتوعية.
وفى حديثه عن التقاليد المتوارثة ودورها فى تأكيد الأدوار الاجتماعية التقليدية للرجل والمرأة، يلفت الكاتب إلى اللا وعى الجمعى الذى يتشكل عبر قناعات راسخة فى الأمثال الشعبية تتوارثها الأجيال، فالموروثات الثقافية تدعم هيمنة الذكر على الأنثى وتفرض على المرأة الرضوخ للذكر والاستجابة لأوامره ونواهيه.
يخلق ذلك الواقع جملة من الأمراض النفسية التى قلما يتنبه أصحابها إلى أنهم يعانون منها، فالمرأة الشرقية تصير أكثر عرضة لـ«متلازمة ستوكهولم» بما يجعلها أكثر قسوة على ذاتها وعلى الإناث بشكل عام، كما أنه من جهة أخرى يسهم فى زرع عقيدتين نفسيتين لدى الرجل؛ الأولى هى أن رجولته تساوى فحولته الجنسية، والثانية هى أن الأنثى أداة جنسية بالدرجة الأولى، لتصبح الأنثى فى عقل الذكر الشرقى ليست سوى موضوع جنسى.
ويترتب على ذلك الوضع شعور مستمر بالتهديد والخوف عند الذكر فى المجتمعات الشرقية؛ الخوف أن يكون غير كاف لزوجته فتبحث عن غيره، فعقيدة كونه مصدر الأمان تجعله فى حالة تهديد مستمرة قد تحيل حياته وحياة من معه إلى جحيم، وهو ما يجعله يلجأ إلى آليات نفسية للمقاومة ممثلة فى «الهجوم أو الانسحاب»؛ فإما أن يصير قاسيًا وعنيفًا ليُخفى هشاشته، أو ينسحب وينكص ويتحول إلى كائن سلبى.
ما الحل أمام كل تلك المعضلات؟ يُخبر الكاتب قارئه بأن مراجعة المفاهيم المغلوطة هى الخطوة الأهم، التى قد تمكننا من مواجهة هذا الاختزال المُخل للرجولة ومعانيها ومقوماتها، والتوعية بأن الرجولة تختلف عن الذكورة، والأنثى ليست أداة جنسية، كما أن الجسد ليس هدفًا جنسيًا، وأن العلاقة بين الرجل والمرأة ينبغى أن تُبنى على الاحترام والتقدير المُتبادل.
بشكل عام، وإن نظرنا إلى الكتاب فى مرآة قارئ تستهويه الكتابات المُبسطة، يكون الكتاب قد حقق هدفًا جوهريًا، بعد أن ضمن لقارئه قراءة مُسليّة تجافى شكل الكتابة المنهجية بما تقتضيه من استناد إلى بحوث ونظريات علمية حديثة وتراتبية فى عرض الأفكار وصياغتها، هو أن يصدمه فى أفكاره القارة بخصوص الذكورة والأنوثة، وأدوار الرجل والمرأة فى الحياة عامة وداخل مؤسسة الزواج خاصة، بشرحه غير المستفيض أو المعمق للدور الذى تلعبه كل من التفاسير الدينية المغلوطة، والتقاليد المجتمعية المتوارثة، وأساليب التربية الخاطئة فى تكريس سلطة الذكورية الشرقية.