فتحي إمبابي: عاصم الدسوقي أساء لكتاب «الشرائع» مستخدما مكانته الأكاديمية (3-3)
في الحلقة الفائتة تحدث الكاتب الروائي فتحي إمبابي عن الأسباب التى دفعته لكتابة" شرائع البحر المتوسط، وأشار في حديثه إلى مستقبل الإبداع في مصر، إلى جانب ذلك أكد على أهمية ودور الإبداع المصري في ظل حالة الجمود والركود الثقافي .
"الدستور" تواصل الحوار بين جيلين، جيل الروائي فتحي إمبابي بكل ما حققه من انتصارات وانتشار، وجيل الشباب وتمثله الكاتبة الروائية منى العساسي والتي تطرح أسئلتها ليجيب عليها صاحبة "عتبات الجنة ".
هل ما قدمته في شرائع البحر المتوسط وجهة نظر أما رؤية مغايرة لما كان؟
أعتقد أن ما قدمته في كتاب الشرائع يعد رؤية مغايرة لما هو سائد في وعي المصريين، وهو ينقض بعص مما يقدم في الكتب والمناهج الدراسية في نظام التعليم المدرسي، ومن ثم الجامعي، كما إنه يعارض بعض المقولات السائدة في منهج المادية التاريخية.
أولها قراءة التاريخ المصري بصورة مغايرة لما هو سائد، وذلك من حيث الفصل بين تاريخ الطبقات الحاكمة والتي تكونت من أجناس غازية تنتمي لعرق مغاير (بطالمة/ فرس/ رومان/ عرب/ إلخ/ عبيد/ عثمانيون)، وبين قراءة تاريخ جماعة الفلاحين المصريين (تحديدا).
و الثاني هو نقض التفسير اللغوي لظاهرة المماليك، ومن ثم ضرورة إعادة قراءة الحقبة المملوكية من حيث كونها حضارة أنتجها نظام العبودية الشرقي، وسيطر على مقدرات الوطن خلال ست قرون جماعات من العبيد الذين قدموا من أواسط أسيا وشرق أوروبا، بينما كانت الجماعة المصرية الممثلة في الفلاحين المصريين ملح الأرض ورماده.
إلى جانب النظر بدقة لمعرفة طبيعة الارتباط التاريخي عبر القرون بين السلطة الكهنوتية والسلطة السياسية.
ومن المهم أن أوكد على أن كتاب الشرائع يشير إلى نمط من العبودية وهو (عبودية الأمم)، وهو نمط لم يشير إليه التاريخ من قبل، فعندما تمنع عن جماعة بشرية ما حق امتلاك الأراضي الزراعية، وألا يحق لها تشكيل فرق عسكرية للدفاع عن أرضها وحقوقها وحدودها، تتحول إلى صورة جماعية من الرقيق والعبيد، مع خلافات بسيطة عن الرق الكلاسيكي.
- ما هي أسباب الخلاف التي دفعت المؤرخ عاصم الدسوقي الى اتهامك بعدم الدقة في كتابك "شرائع البحر المتوسط"؟
من ناحية ما تصرف الدكتور عاصم الدسوقي الذي أكن له الاحترام بعدوانية تتنافى مع تقاليد الحوار المتمدين بين المثقفين، وهو لم يفكر في مناقشة الكتاب رغم ذكره إنه يعبر عن مجهود ضخم، ولكنه اكتفى برفضه كلية معتمدا على حجتين.
الأولى هو استنكاره لقيام المهندسين بالكتابة عن التاريخ. أو إنه على المهندسين العمل في تخصصهم فقط دون غيره. وهي حجة ضعيفة لا ينبغي مناقشتها من الأصل.
الحجة الثانية متعلقة بالدور الذي لعبه والي مصر محمد سعيد باشا في انبعاث الوطنية المصرية، ومساندة العنصر المصري في مواجهة سيطرة الأتراك والشراكسة. وفي رأي أن الأمر لم يكن مجرد شعارات حماسية ولكن سعيد باشا قرن أحلامه بأفعاله المتمثلة في قوانين 1855 و1858 الإصلاحية.
يري الدكتور الدسوقي أن محمد سعيد باشا أعطي الفلاحين حق الانتفاع، وليس حق الملكية. وهو ما يتعارض مع ذكرته من أن محمد سعيد باشا أرسي قواعد الملكية الزراعية للفلاحين في قوانين 1855 و1858 وأعطي الفلاحين حقوق الملكية الزراعية أو بمعني أصح حقوق الحيازة الأراضي وهو ما يعني حق الملكية. وأعطي أبناء العمد والمشايخ حق الترقي في سلك الضباط في الجيش المصري، وهو ما نجم عنه ظهور أول طبقة اجتماعية مصرية تنشد التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي"، والذي تمظهر في الثورة الدستورية الأولي عام 1881 والذي تدعي بهوجة عرابي..
وفي هذا الخصوص نستطيع مراجعة ما ذكره المؤرخ عبد الرحمن الرافعي في كتابه "عصر إسماعيل الجزء الأول". والتي جاء فيها: "إن سعيد باشا بذل جهودا موفقة لإصلاح حالة الفلاحين ... فخولهم حق الملكية العقارية للأراضي الزراعية وسن لهذا الغرض قانونه المشهور باللائحة السعيدية الصادرة في 5 أغسطس سنة 1858م. ... وأوضح أنها من أعظم إصلاحاته لأنها أساس التشريع الخاص بملكية الأطيان في القطر المصري وهي من آثاره الخالدة التي تذكر له بالخير لأن الملكية هي من الدعائم الأساسية للهيئة الاجتماعية... إلخ... إلخ...".
من جهة أخرى يبدو أن الدكتور عاصم الدسوقي لم يدرك أن كتاب الشرائع يتجاوز علم التاريخ إلى ذاك المزيج المكون من علم الإنسان الثقافي (Cultural Anthropology) والذي يتناول تاريخ الثقافات والحضارات الإنسانية. ونتاجاتها غير المادية، بما تتضمنه من رموز، قيم، معتقدات دينية، وأسطورية وقانونية، وأن منهج الكتاب قائم على المقارنة بين حضارات وثقافات الجماعات التي كانت تعيش على ضفاف البحر المتوسط، والأثار الناجمة عن التفاعل والصراع والجدال والامتزاج والتناقضات الحادثة فيما بينها. وكذلك مفهوم التثاقف: (Acculturation) وهو العملية التي تتغير بها السمات الثقافية لجماعة ما عند الاتصال بجماعة أخرى. كما يستخدم هذا المفهوم أيضاً، لوصف العملية التي يتعلم بها الأفراد ثقافة أخرى، وهو ما حدث للجماعة المصرية التي غيرت لغتها عدة مرات، ولكل من الديانتين اليهودية والمسيحية، ثم هناك مفهوم الصهر الثقافي: (Assimilation) هو العملية التي تصبح فيها جماعة اجتماعية/ثقافية جزءاً من جماعة اجتماعية/ثقافية أخرى.
في الحقيقة لقد أساء الدكتور عاصم الدسوقي للكتاب مستخدما مكانته الأكاديمية في كبح انتشار الكتاب واطلاع القراء عليه.
- كيف يمكن للرواية أن تفتأت على التاريخ، وما هي الأعمال الإبداعية التي ترى أنها تطرح أكاذيب لا وجهات نظر؟
يمكن للرواية أن تفتأت على التاريخ في عدد من الحالات، أشهرها وأكثرها تداولا عندما يرغب الكاتب أن تقتصر كتاباته على المتعة، كأن يهتم بقيم ما مثل الشجاعة أو الفروسية أو الرومانسية، أو أن تكون الرواية تعبيرا عن الخيال الجامح للكاتب مثل الأسطورة، ومن المعروف أن عدد من مسرحيات شكسبير كانت تعتمد على قصص حقيقة لم يلتزم خلالها بالوقائع التاريخية، مفضلا عليها إبراز عدد من القيم الكبرى والصراعات الإنسانية والنفسية التي يتناولها.
لكن أسوأ عمليات الافتئات على التاريخ تتم في ثلاث حالات شائعة، الأولي الحماسة الوطنية عندما لا يهتم الكاتب بإبراز النقائص والأزمات التي تعاني منها جماعته، والثانية الجهل بالتاريخ وعدم القدرة على تفكيك الأحداث ومن ثم إعادة بنائها وأخيرا وهو الأسوأ عندما يضع الكاتب أفكاره وتمثلاته الأيدولوجية على حساب الحقيقة التاريخية، هنا يمكن أن ترتكب جرائم في حق أشخاص وجماعات بشرية وحقائق تاريخية مؤلمة.
- المسافة بين العمل الروائي الأول وآخر ما قدمه فتحي إمبابي ماذا أضافت وماذا أخذت من الروائي فيك؟
المسافة بين أول عمل روائي وأخر ما قدمته أضاف لي قدرا واسع من المعرفة بحقائق الحياة، بطبيعة الأنسان المصري وآلامه وأحلامه وطموحاته وخاصة تلك التي عجز عن تحقيقها، أضافت لي وعيا بالحقائق الاجتماعية والثقافية والسياسية، انه نسيح مجدول من المعرفة والألم معا، وخاصة عندما يبدو العالم تعيسا والواقع مظلم لا يتسم بالعدالة ولا يحقق ما يبتغيه المرء من أحلام.
بالنسبة لي شخصيا علمتني الكتابة ألا أتوقف عن الكتابة، علمتني الكتابة القناعة والرضا بما هو مقدر، علمتني أن اختيار الطريق الصعب وعدم التنازل هو ما يجعل الحياة شديدة الصعوبة بما لا يقاس