على جمعة يدعو إلى الأخلاق الكريمة: نلتمس ذلك من جيل الصحابة الكرام
قال الدكتور على جمعة، مفتي الجمهورية السابق، شيخ الطريقة الصديقية الشاذلية، سنظل ندعو إلى الأخلاق الكريمة ونلتمس ذلك من جيل الصحابة الكرام الذين نجح رسول الله ﷺ بتوفيق من الله في تربيتهم, ونجحوا في تربية من بعدهم,، ولن نترك ذلك ولو تباعد الزمان, روي مسلم في صحيحه عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت.
أضاف أن "عبادة بن الصامت الصحابي الجليل أبو الوليد وجد عبادة الصغير) قال: خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحي من الأنصار قبل أن يهلكوا (فالوليد وابنه عبادة حريصان على طلب العلم وسوف نرى أن العلم مرتبطٌ ارتباطا عضويًا بالأدب والأخلاق, ومرتبط ارتباطًا عضويًا بالدين وبالعلاقات الاجتماعية وبسير الحياة اليومية) فكان أول من لقينا أبا اليسر صاحب رسول الله ﷺ ومعه غلام له (وهذه فرصة لا تعوض حيث التقيا بصحابي جليل من صحابة رسول الله ﷺ ومعه عبد له, وهذا يبين أن الولد وأباه -أعني عبادة والوليد- يطلبان العلم معا, فالعلم لا يعرف سنًا ولا وقتًا, وأن أبا اليسر مع عبده يسعيان أيضًا في طريق العلم, حيث إن هذا الغلام, وكما سنرى معه مجموعة أوراق, وهذه الأوراق تحمل لغرض العلم, فقال في وصف ذلك: معه ضمامة من صحف, وعلى أبي اليسر بردة (أي عباءة) ومعافري (نوع من أنواع الملابس كان يصنع في اليمن في قبيلة يقال لها معافر, فنسب إليها هذا الزي, وشكله مختلف عن العباءة, وعلى غلامه بردة ومعافري (أي يرتدي مثل ما يرتدي سيده أبو اليسر, لا اختلاف بينهما, وهو أمر راعى فيه أبو اليسر عدم التمييز بين السيد والعبد, وفضل هذا المعنى على معنى آخر وهو الأناقة, حيث لو لبس واحد منهما العباءتين معًا ولبس الآخر المعافريين معًا لكان ذلك عند العرب أوجه وأكثر أناقة, ولكن سنفقد حينئذ معنى المساواة, ويسمى لبس ثوبين متشابهين في لغة العرب الحلة فقال له أبي: (أي الوليد بن عبادة بن الصامت) يا عم (ونادى أبا اليسر بكلمة عم لأنه صديق أبيه عبادة بن الصامت) إني أرى في وجهك سفعة من غضب (أي أرى على وجهك أثر الغضب), قال: أجل (أي نعم) كان لي على فلان بن فلان الحرامي (نسبة إلى قبيلة بني حرام) مال (أي دين) فأتيت أهله فسلمت فقلت: ثم هو؟ (أي هل هو هنا) قالوا: لا, فخرج على ابن له جفر (أي أحد أبنائه الصغار, والجفر هو الولد الصغير) فقلت له: أين أبوك؟ قال: سمع صوتك فدخل أريكة أمي (أي اختبأ في حجرة زوجته), فقلت: اخرج إلي فقد علمت أين أنت (أي أن أبا اليسر رفع صوته بهذه العبارة غاضبًا من أنهم كذبوا عليه أولا قبل أن يخبره الطفل الصغير فأثر هذا في نفسه).
وتابع :فخرج فقلت: ما حملك على أن اختبأت مني؟ قال: أنا والله أحدثك ثم لا أكذبك, خشيت والله أن أحدثك فأكذبك وأن أعدك فأخلفك (أي أنه كان خجلا من أبي اليسر ومن الاعتذار إليه وعدم سداد الدين وهذا الخجل أوقعه في الكذب) وكنت صاحب رسول الله ﷺ (وهذا سبب آخر وهو شدة تعظيم ذلك الرجل لأصحاب رسول الله ﷺ, أنه لم يطق أن يواجهه فجعل من حوله يكذب هذه الكذبة التي أغضبت أبا اليسر) وكنت والله معسرا (أي غير قادر على السداد فعلا), قال: قلت آلله؟ (أي أبا اليسر يستحلف الرجل), قال: الله (أي أن الرجل حلف بالله أنه صادق), قلت: آلله؟ قال: الله, قلت: آلله؟ قال: الله (استحلفه ثلاثا للتأكيد), قال فأتى (يعني أبا اليسر) بصحيفته فمحاها بيده (أي ألغى إيصال الدين ومحاه ولم يعد هناك إثبات قضائي يهدد هذا الرجل) فقال: (أي أبو اليسر) إن وجدت قضاء فاقضني (أي إذا رزقك الله بعد ذلك بقيمة الدين فسدده) وإلا أنت في حل.
فأشهد بصر عيني هاتين -ووضع إصبعيه على عينيه- وسمع أذني هاتين ووعاه قلبي هذا -وأشار إلى مناط قلبه- رسول الله ﷺ (أي أن عينيه رأت وأذنيه سمعت وقلبه حفظ ما قاله النبي ﷺ) وهو يقول: من أنظر معسرًا أو وضع عنه أظله الله في ظله (وكلمة وضع عنه أي أسقط الدين عن المدين).
أوضح: قال: فقلت له أنا: (أي عبادة بن الوليد) يا عم لو أنك أخذت بردة غلامك وأعطيته معافريك أو أخذت معافريه وأعطيته بردتك فكانت عليك حلة وعليه حلة (أي كل واحد منهما يرتدي ثوبين متشابهين وهو المسمى بالحلة), فمسح رأسي وقال: اللهم بارك فيه, يا ابن أخي بصر عيني هاتين وسمع أذني هاتين ووعاه قلبي هذا -وأشار إلى مناط قلبه- رسول الله ﷺ وهو يقول: أطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون, وكان أن أعطيته من متاع الدنيا أهون علي من أن يأخذ من حسناتي يوم القيامة.
ويستفاد من هذا الحديث: الحرص على طلب العلم وتحصيله, وعلى التعليم وبذله للآخرين, والأخلاق العالية, والعفو عند المقدرة, وعدم الوقوف على زلات الناس, والاعتذار لهم, والتأكد من نقل العلم والدقة والوضوح في ذلك, والحرص على المساواة بين البشر, والمسامحة في الديون, وتأجيل المعسر, فاللهم أعنا على أنفسنا وفهمنا دينك.