محمد شحاتة العمدة: «البداري» أول بلد عرَف الزراعة.. والبناء بالطين الأنسب للصعيد (حوار)
يرى محمد شحاتة العمدة، الباحث في الثقافة الشعبية والأنثروبولوجيا، أن قرى الصعيد تتشابه بقوة في نشأتها وتطورها، وأنه انتقى مركز البداري بأسيوط ليناقش من خلاله تغيّر العمارة الشعبية في صعيد مصر، كما يؤكد العمدة أن مركز البداري أول مَن عرف الزراعة بحسب مخطوطات قديمة.
«العمدة» الذي أصدر كتابه «العمارة الشعبية والتغير الثقافي في صعيد مصر»، عن الهيئة العامة لقصور الثقافة «الدستور» وكان لها معه هذا الحوار..
اعتمدت في دراستك على مركز البداري في محافظة أسيوط.. لكنك قمت بالتعميم في العنوان فقلت «في صعيد مصر».. هل يمكن أن نقول إن التغيّر في البداري هو أنموذج صغير يشبه كل التغيرات التي حدثت في صعيد مصر؟
لا شك في ذلك فمعظم قرى ونجوع الصعيد من الشمال للجنوب تتشابه في موقعها وبيئتها، تشترك في نهر النيل وسلسلة جبال البحر الأحمر، إضافة للعادات والتقاليد والثقافة المادية والأدب الشعبي، وما حدث من تغيّر لمركز البداري وقراه طال الصعيد بأكمله، لكن على فترات زمنية ليست ببعيدة، إلا أن كل قرية في الصعيد وكل جماعة شعبية لها سماتها الخاصة التي تميّزها عن الأخرى، سواء في اللهجة أو مخرجات الألفاظ أو في تغيّر تعدد الأسماء لشيء واحد أو في طريقة ارتداء الملابس، وطريقة إعداد الطعام وتميز بعض القرى والمجتمعات بحرف معينة، أو عادات ومعتقدات خاصة، وكل ذلك لا يؤثر على نسيج الصعيد المترابط، وعمل أهله في حرفة الزراعة.
ذكرت أن البداري يرجع تاريخها ربما لما قبل 13 ألف عام قبل الميلاد لكنها لم تحظ بالاهتمام من الباحثين والأثريين.. إلام يرجع السبب في رأيك؟
بالفعل البداري تعد أقدم مدن الصعيد، وهي أول بلد عرف الزراعة كما ذكرت المخطوطات القديمة، إلا أنها لم تجد الاهتمام المناسب لتاريخها، والسبب في ذلك يرجع إلا قلة الآثار الفرعونية في مركز البداري، والتي يقتصر وجودها على قرية الهمامية الواقعة أسفل الجبل الشرقي، والتي نهبت الكثير من مقابرها، ولا يزال الكثير أسفل البيوت القديمة الطينية التي يمتلكها أهلها، كما أن حضارة البداري أشتهرت بالزراعة وبصناعة الفخار وبيوتها القديمة الطينية اختفت بفعل عوامل الزمن، فلم يكن أهل البداري آنذاك عرفوا البناء بالأحجار، ولم يتبق سوى مقابر قليلة منحوتة في بطن الجبل الشرقي، ومحكمة فرعونية قديمة لا تزال بقاياها حتى الآن في الجبل.
كما أن البداري تميزت في العصر الحديث بتصدير وزراعة فاكهة الرمان، وتميزت برجالاتها مثل النائب الراحل ممتاز نصار والدكتور نصار عبدالله والكثير من الأدباء والكتاب والعلماء، فأستاذ طه حسين الشيخ علام سلامة من مركز البداري.
تحدثت كثيراً عن المنازل التي بنيت من الطين، وهذا يرجعنا إلى حديث حسن فتحي عن قراه التي بنيت من الطوب اللبن وكان يقول إنها البيئة الصحية في الصعيد.. كيف ترى هذا مع تغيّر المعمار في صعيد مصر وصولاً للخرسانات المسلحة والطوب الأحمر والأبيض؟
البناء بالطين اللبن في بيئة شديدة الحرارة مثل الصعيد هو الحل الأمثل من وجهة نظري ووجهة نظر المختصين في العمارة أيضًا، فكما يقولون عندنا في الصعيد (الطين حنين) بمعنى أنه جهاز تكييف طبيعي، فلا تشعر بحررارة الجو صيفًا أو ببرودته شتاءً، لطبيعة الطين الذي لا يمتص الحرارة ويعيد تدويرها في قشرته الخارجية ولا يخزنها كما تفعل البيوت الخرسانية، كما أن بيوت الطين تصمد لمئات السنين ولا تؤثر الأمطار إلا في البيوت التي المبنية بقشرة خفيفة، كما أن الأمطار قليلة في الصعيد بعكس مدن الشمال، وبيوت الطين غير مكلفة لأنها تبنى من خامات البيئة الزراعية المتاحة بشكل مجاني للمزارع، ولا تحتاج لعمال مهرة، فيمكن لصاحب البيت وزوجته وأولاده المساهمة في البناء، إلا أن لها سلبيات يمكن معالجتها مثل انتشار بعض الحشرات والزواحف، وعدم إمكانية بناء طوابق متعددة أعلاها.
قديماً كان كل البناء من الطبيعة فالغاب من الترع والمصارف، والفلوق التي تسطح البيوت من النخيل، والطين من الترع، هل ترى أن الاتجاه للمعمار الحديث ساهم في بيئة صحية أم العكس؟
البناء من خامات البيئة الزراعية كان له دور كبير في الحفاظ على البيئة، فتوقف البناء الآن بخامات البيئة هو سبب من أسباب تلوث البيئة، فجذوع النخل وأعواد البوص والغاب يتم حرقها الآن لأنها تأخذ حيز في الأراضي الزراعية، وقديمًا كانت تستخدم في بناء وتدعيم وسقف البيوت، فالعمارة العصرية الآن لا تناسب البيئة الزراعية وصار الصعيد مسخ من المدينة، لا يناسب حرفة الزراعة أو أزياء أهله وعاداتهم، والبيوت العصرية تطلبت أبواب مصفحة وحديدية مغلقة على أهلها، ففقد الصعيد دفء العائلة القديم، فقد كانت البيوت مفتوحة على مصراعيها تستقبل القريب والغريب.
نوهت في دراستك إلى أن كل شيء تبدل حتى الفرن الطيني وطريقة خبيز العيش، كيف ترى هذا في صالح ناس الصعيد أو ضدهم؟
الجميل في الفرن الطيني هو تجمع النساء حولها، فكنا نستمتع بحكاياتهن وأغانيهن، وكان هذا الطقس يحافظ على عادات الصعيد والأدب الشعبي الذي يميزه، كما أنها كانت نوع من التكافل الاجتماعي، فعندما ترى الدخان يخرج من بيت في القرية تجد النساء تتجه نحوه، يحصلن على أرغفة ساخنة من صاحبة البيت وكأنه موسم للدعم والتزاور، كما أن قيام الجماعة الشعبية وقتها بزراعة القمح كان لا بد له من مستهلك، وهو خبز العيش الشمسي، والآن توقف معظم أهل الصعيد عن زراعة القمح، وبدلوا المحاصيل بالفاكهة، فلا ترى الآن دخان أفران كالسابق، والجميع يحصل على الخبز من الأفران الرسمية وعلى بطاقات التموين مثل أهل المدن.
كانت هناك الكثير من الطقوس التي مررت بها في كتابك واختفى بعضها كالرسم بالجير في الحجيج وغيرها.. هل ترى أن هذا يؤثر في البيئة الجنوبية؟
تغيّر العمارة بشكل عام قضى على الكثير من العادات والمعتقدات الخاصة بأهل الصعيد، وفقد التراث الصعيدي بشكل عام رونقه وأصالته، فالصعيد الآن تقرأ عنه في الكتب وتراه في بعض الأعمال الدرامية والتي شوهت صورته، وتراه في كتب الباحثين في الثقافة الشعبية، إلا أنك عندما تزور الصعيد تصدم من نتائج التغير على بيئته وأهله.