«القرنية الصناعية».. أمل جديد لعودة الرؤية إلى مرضى فشل عمليات الترقيع
كيرلس موريس، شاب عشريني يعمل "ترزي"، شاء القدر أن يفقد النظر في عينه اليمنى ولا يرى إلا بصيصًا ساطعًا، حاول كثيرًا إجراء جراحات فيها ليستعيد نظره الذي تعتمد عليه مهنته، إلا أن كل محاولاته باءت بالفشل، إلى أن ظهرت المعجزة الإلهية التي أعادت إليه بصره.
28 مارس 2019، هو تاريخ نجاح أول عملية للقرنية الصناعية، تم إجراؤها في مستشفى الدمرداش التابعة لجامعة عين شمس، ووقع الاختيار على "كيرلس" ليكون هو الأول في مصر يقوم بتلك الزراعة، فهو لم يمتلك المقدرة المالية للسفر خارج مصر وإجراء جراحة أخرى أكثر تقدمًا، وهو ما لم يستطع معه حيلة وقتها.
الجراحة أجراها له قسم طب وجراحة العيون بالمستشفى، والذين شكلوا 12 شخصَا أتموا الجراحة على مدار 6 ساعات.
القرنية هي العدسة الأمامية وظيفتها تجميع الضوء على مركز الإبصار في الشبكية، ويصيبها عتمات قد تكون بسيطة أو شديدة أو يصيبها تغيرات في الشكل يعرف باسم القرنية المخروطية، تلك العتمات تأتي نتيجة إصابة أو حرق كيميائي أو بعض أمراض المناعة أو بعض العيوب الخلقية، فتكون القرنية معتمة بالتالي الضوء لا يمر عبر مركز الإبصار في الشبكية.
السطور التالية، كشفت أنه بعد مرور سنتين على أول جراحة ناجحة لعملية القرنية الصناعية أصبحت ضمن العمليات الرائجة للحالات التي يرفض جسمها القرنيات المزروعة فيها باعتبارها جسم غريب، حيث يظل الجسم يقاومها إلى أن تفشل العملية نفسها، فباتت هي الحل الأمثل لهم، أيضًا نوضح الأسباب العلمية للزراعة ولماذا يحتاج الإنسان إلى زراعة القرنية نفسها، ولماذا تعاني من نقص شديد في مصر.
وصلت أعداد المصريين الذين يعانون من "عتامة العين" ويحتاجون إلى قرنيات لإعادة إبصارهم مرة أخرى، حسب إحصائية منظمة الصحة العالمية ٢٠١٥، إلى ما يزيد عن مليون، وزارد الطلب بعدها على القرنيات، لكن وسط إغلاق بنوك القرنيات في مصر بدأت تقنية جديدة في الظهور، خاصة أنه في بعض الحالات لا تنجح عمليات زرع القرنية البشرية، وهي القرنية الصناعية الدائمة.
بصر "عبدالحكيم" يعود إليه بعد إجراء 6 عمليات
أصيب بعتامة في قرنيتيه ففقد قدرته على التواصل مع الآخرين وتوقف عمله، وشعر أن الحياة لم يعد لها طعم، الحاج عبدالحكيم أبو الفضل، من مواليد 1957، يعمل في مجال المقاولات، أجرى أكثر من عملية لإعادة النظر إلى عينيه لكنها باءت بالفشل، فمع الرفض المستمر في القرنيات التي تم زراعتها له لم يعد هناك أي فائدة من إعادة الزرع في تلك الحالة، وبعد 5 عمليات كان الحل في السادسة وهي عملية قرنية صناعية دائمة، تغيرت حياته وعاد لعمله ويباشر حياته بشكل طبيعي، مع الالتزام بالمتابعة المستمرة والعلاج لذلك فنسبة استجابته وشفائه عالية.
ويسترجع "عبدالحكيم" مع "الدستور" أوقات ما قبل إجراء العملية الأخيرة، فيقول إن أبنائه كانوا هم عينيه التي يرى بهم، فحرصوا على أن يكونوا بجانبه دائمًا من الاهتمام بطعامه وشرابه، وأيضًا مساعدته في دخول دورة المياه، وفي أي وقت احتاج للخروج من المنزل كانوا إلى جانبه فيمسكون يده لحين أن يصل إلى سيارته ويذهبوا به إلى أي مكان يريده، وإذا أراد حلاقة ذقنه يتحسسها ليتمكن من حلاقتها ويحاول في ذلك الأمر بنفسه دون تدخل من أبنائه.
"أول مرة بعد العملية قدرت أشوف نفسي في المراية ارتحت وقدرت أنزل السلم لوحدي وكانت السعادة مالية قلبي، ودلوقت بحمد ربنا على العملية دي وإني رجعت أشوف تاني"، كلمات مؤثرة تابع بها حديثه الذي عبر فيه عن مدى الضيق الذي كان يتسلل إلى قلبه في أوقات ما قبل العملية، فكان يقضي أغلب يومه في النوم كي لا يتحدث معه أحد أو يسمع صوت التلفاز.
أما عن العمل، كان يتابعه من خلال الهاتف فهو الوسيلة الوحيدة المتاحة أمامه ويطمئن على سير العمل من خلاله، أو يأخذه أحد أبنائه إلى موقع العمل للجلوس مع الأشخاص فيه، لكنه كان يخرج من تلك المقابلات في أشد الضيق لأنه لا يسمع سوى الأصوات فقط ولا يرى تعابير من يتحدث معهم.
الحاج عبدالكريم رزقه الله بـ6 أبناء؛ 4 أولاد وفتاتين، فأما عن الأولاد فأحدهم بكلية صحافة وإعلام، والثاني خريج دبلوم تجارة، والثالث في المرحلة الإعدادية، أما الأخير فهو في الصف الخامس الإبتدائي، والفتاتين توأم في الصف الرابع الإبتدائي، ووصف لنا معاملة أبنائه له بأن البنات أحن من الأولاد فاهتممن وقتها بهندمته وصحته وإعطائه حقنة الأنسولين لأنه مريض داء السكرى و"مكنوش بيسيبوني".
أستاذ جراحة عيون: نلجأ للقرنية الصناعية عند فشل عملية الترقيع
الدكتور إيهاب سعد عثمان، أستاذ طب وجراحة العيون جامعة القاهرة، ومدير مستشفى دنيا العيون، أوضح أن تقنية القرنية الصناعية الدائمة دخلت إلى مصر، بالتعاون مع جامعة هارفرد، واصفًا إياها بأن بها جزء خامل مصنوع من مواد مخلّقة يتم تركيبها على قرنية بشرية من متبرع متوفي، ثم نضعهما على سطح العين في مكان العتامة التي كانت موجودة لدى المريض، ونلجأ إلى القرنية الصناعية عند فشل عملية ترقيع القرنية فلا داعي لإعادتها مرة أخرى، وهذا هو الحل العلمي المواكب للعصر الحالي وتطورات العلم.
"آدم" عاد للعب بعد معاناة سنتين من فقد البصر
آدم محمود، 10 سنوات، قبل سنتين كان شأنه كأي طفل في عمره يلهو مع أصدقائه في الشارع، يلعبون الكرة ويخرجون طاقتهم بعد أسبوع دراسي طويل، ولكن ذلك اليوم كان الصاعقة التي هبطت على "آدم" جعلت حياته تتغير فأصبح غير قادر على اللعب مع أقرانه كما اعتاد.
ففي أحد الأيام، وأثناء لعبه الكرة، جاء أحد الأولاد على دراجته حاملًا معه "مية نار" وإذا بهذه العجلة تنقلب وينفجر الكيس في وجه "آدم" لتتطاير "مية النار" إلى عينيه الاثنتين، ليفقد بصره بشكل كلي.
"آدم" يروي لـ"الدستور" رحلته مع معالجة عينيه قبل أن يعرف والديه عن عملية القرنية الصناعية الدائمة، فقد عاش أيامًا عجافًا لم يستطع فيها ممارسة حياته الطبيعية، حيث اللعب والذهاب للمدرسة والجلوس مع والديه وقيامه بعمل متطلباته بنفسه، فقد ذهب إلى مستشفى قصر العيني وأجرى فيها أكثر من عملية زراعة قرنية، لكن كانت المحصلة النهائية صفر، فلا نتيجة تذكر فقط فقدان الأمل في عودة البصر في كل مرة.
مر عامان إلى أن اهتدى والديه إلى أحد الأطباء الذين يقومون بإجراء نوع جديد من العمليات لمثل حالته، ولم يتوانوا في الذهاب إليه والاتفاق على كل ما يحتاجه "آدم" ليعود بصره، فكانت الخطوة الأولى إزالة التصاقات الجفن بالعين الواحدة والتي نتجت عن دخول المادة الكاوية إليها، ثم توسعة هذا المكان وتركيب غشاء لمنع رجوع تلك الالتصاقات، وبعد 6 شهور تم زراعة قرنية صناعية مع إزالة العدسة لوجود مياه بيضاء عليها نتيجة الحرق الكيمائي، وتم وضع جسم زجاجي، ثم تم تثبيت القرنية.
ذكريات يريد "آدم" محوها من رأسه، فقبل نجاح تلك العملية ولمدة سنتين، شعر بالضيق لأن حركته كانت قليلة خوفًا من الارتطام بأي شئ أمامه فيصاب بأي ضرر جديد، أما الآن نجح في تحديد ما أمامه كي لا يصطدم به أو يلحق الأذى بنفسه وأصبحت حركته طبيعية بشكل كبير، ونجح في فتح الارتباط الاجتماعي الذي حُرم منه وعاد إلى تواصله مع الآخرين، وهو في انتظار الرحلة الأخيرة لعودة بصره بشكل شبه كامل مع المتابعة الدورية والالتزام بالعلاج.
واختتم حديثه قائلا: "نفسي أروح المدرسة وأكبر وأبقى دكتور عيون أو قلب.. نفسي أرجع ألعب تاني.. وحشني اللعب مع أصحابي تاني".
أستاذ جراحة عيون: هناك حالات معينة ترفض القرنية المزروعة
نعود للدكتور إيهاب عثمان، الذي يشرح أنه في حالات بسيطة نقوم بتغيير القرنية المصابة ونضع مكانها قرنية بشرية أخرى من متبرع نأخذ منه النسيج فقط وليس العضو نفسه، وإذا تم رفض القرنية البشرية يستطيع المريض أن يرى من خلال الجزء المركزي وهو لا يتم رفضه لأن الجسم لا يتعرف عليه، بالتالي تستمر الرؤية، لكن في بعض الأحيان يحدث رفض لهذه القرنية ويبدأ الجسم في مهاجمتها، لأن جهاز المناعة اعتبر أن القرنية الجديدة هي جسم غريب عنه فيرفضها، خاصة بالنسبة للأطفال والحروق الكيميائية وجفاف العين والأمراض المناعية، كل تلك الأعراض لم يكن لها أي حل في مصر حتى عام 2010، حيث اكتشف القرنية الصناعية الدائمة.
"ندى" اكتشفت ظُلمتها مبكرًا وعاد نورها بالزراعة
ندى كمال، فتاة عشرينية، سارت حياتها طبيعية دون أي مشكلة إلى أن وصلت إلى سن الثامنة عشر، فقد بدأت تنتابها رؤية ضبابية تجعل رؤيتها لما حولها غير واضح بشكل كبير، ولم تهتم كثيرًا لهذا الأمر لظنها أنها مجرد فترة مؤقتة وستنتهي، خاصة وأنها كانت في فترة الثانوية العامة واحتاجت وقتها لكثير من الوقت تقضيه أمام شاشة الكمبيوتر للدراسة، خاصة وأن كثير من دروسها تحولت إلى "أونلاين".
واستمرت تلك القصة معها لفترة طويلة جعلت ذويها يشكون أن هذا الأمر غريب ويحتاج إلى مراجعة طبيب، لتكون المفاجأة أن "ندى" منذ ولادتها وقرنيتها مخروطية، وأن الانتظار على عدم علاجها أكثر من هذه المدة سيكون سببًا في إصابتها بالعمى الكلي، والحل في زراعة قرنية جديدة.
ولجأت "ندى" في البداية إلى إجراء عدد من عمليات زراعة قرنية بشرية عادية إلا أنها كانت جسم غريب جعل جهاز مناعتها يرفضها باستمرار، لذا لم تنجح معها تلك العمليات، ورغم تكلفتها الباهظة إلا أن ذويها لم يتوانوا في البحث عن حلول أخرى تقيها من مصيرها المعتم، إلا أن اهتدوا إلى عملية القرنية الصناعية الدائمة، وقد نجحت في كثير من الحالات، فكانت أملها الذي أعاد إليها بصرها وعادت لطبيعتها.
أخصائي جراحات القرنية: بعض أمراض القرنية تضطرنا للزراعة
وتعليقًا على حالة "ندى"، تحدث معنا الدكتور محمد جمعة، أخصائى جراحات القرنية بجامعة الإسكندرية، حول "القرنية المخروطية"، معرفًا بأنها مرض يظهر لدى بعض الشباب ويتسم بالتدهور السريع في الرؤية، نتيجة وجود مرض يحول القرنية من شكلها المستدير إلى المخروطي.
وأضاف "جمعة"، في حديثه مع "الدستور"، أن هذا التدهور الذي يحدث للمريض هو ما يؤدى إلى ظهور سحابات وعتامة على الرؤية، أو ظهور ثقوب فيها بشكل لا يمكن علاجه، لذا يكون المريض بحاجة إلى عملية زراعة جديدة للعضو، موضحًا أن القرنية المخروطية ليست المرض الوحيد الذى يضطرنا لزرع قرنية جديدة، بل هناك عدة أمراض يمكنها أن تسبب العتامة، منها الإصابات في العين، والالتهابات الناتجة عن فيروسات أو ميكروبات أو بكتيريا تهاجم العين بما يحدث تقرحًا في القرنية ويؤثر على شفافيتها، لذا يكون من الضرورى استبدالها.
يذكر أن بنوك القرنيات في مصر كانت موجودة في جامعة القاهرة ممثلة في مستشفى قصر العيني، وجامعة عين شمس، وكلاهما تم إغلاقه بسبب الاتهامات حول سرقة القرنيات من المتوفيين دون علم الأهل رغم أن هذا الأمر يقره القانون، وحاليًا تتم تلك العمليات من خلال استيراد القرنيات نفسها من الخارج.
ونجحت بعض المستشفيات الجامعية في إجراء زراعات مجانية بعد استيراد القرنيات من الخارج، منها: مستشفيات جامعة أسيوط الجامعية؛ ففي أغسطس 2018، أعلنت عن إجراء 55 عملية زرع قرنية على نفقة الدولة، وهو ما انفردت به على مستوى جميع المستشفيات في صعيد مصر، أيضًا أعلنت الهيئة العامة للرعاية الصحية، في أكتوبر 2020 عن نجاح عمليتين لزراعة القرنية بمستشفى الرمد التخصصي في بورسعيد، وفي 31 مايو الماضي، شهدت مستشفيات بنها الجامعية إجراء أول عمليات زراعة القرنية تزامنًا مع افتتاح وحدة زراعة القرنية بالمستشفيات الجامعية.