فلسطين.. هل آن الأوان؟ «١-3»
ظن البعض فى الغرب والشرق أن القضية الفلسطينية قد ماتت، وتصور البعض أن نسيان- أو تناسى- القضية هو الحل الأمثل، لكن أحداث القدس، وما تلاها من قصف غزة، أوضحت للجميع أن القضية باقية ما بقى الشعب الفلسطينى.
ووجدتنى أستدعى التاريخ القريب، لا سيما أن شهر مايو هو شهر النكبة؛ إذ اندلعت حرب فلسطين فى ١٥ مايو ١٩٤٨. وشهد هذا الشهر إعلان قيام دولة إسرائيل، واستنفار الجيوش العربية إلى فلسطين لمواجهة ما أُطلِق عليه آنذاك «العصابات الصهيونية».
وفى الحرب كانت هناك مواجهات قاسية لحقيقة الأوضاع على الأرض، وكان أول أوهام الخديعة ما رُوِّج له بخبث أن القوات الموجودة فى إسرائيل ليست إلا مجرد مجموعة من العصابات الصهيونية، وأن الجيوش العربية ستسحقهم فى أيام قليلة. ولم يكن ذلك إلا جزءًا من حركة الدعاية الصهيونية وادعاء المظلومية والاستضعاف أمام جيوش عدة دول عربية، وروَّجت الصهيونية لهذه الصورة الذهنية فى أوروبا والغرب عامة، حتى تظهر إسرائيل وكأنها الحَمَل الوديع فى مواجهة العرب البرابرة، وفى الوقت نفسه أدى ذلك إلى زرع الثقة الزائدة فى نفوس الجماهير العربية آنذاك بأن إسرائيل وعصابتها إلى زوال.
وعلى الأرض وأثناء المعارك ثبت للجميع أن مقولة «العصابات الصهيونية» هى مقولة خادعة، وأن العرب يواجهون جيشًا حديثًا منظمًا، تدرب معظم أعضائه ضمن جيوش الحلفاء أثناء الحرب العالمية الثانية، وأن هذا الجيش «العصابات» يمتلك أحدث أنواع الأسلحة، بل ويمتلك سلاح جو على أعلى مستوى، فعندما قامت الطائرات المصرية بقصف مدينة تل أبيب أثناء حرب ٤٨، رد سلاح الجو الإسرائيلى بقصف ساحة قصر عابدين، فى رسالة تحذيرية بأن الطيران الإسرائيلى قادر على الوصول إلى العمق المصرى.
وهنا تساءل الجميع: كيف لعصابات صهيونية القدرة على امتلاك وقيادة مثل هذه الطائرات؟ وأدرك الجميع الخديعة الكبرى بالتهوين من شأن الخطر الإسرائيلى.
وهنا عودة إلى الجيوش العربية التى اكتشفت أنها دخلت حربًا ضَرُوسًا دون أن تكون مستعدة لها؛ إذ كانت هذه الجيوش حديثة العهد، تكوَّن معظمها فى أعقاب الاستقلال، ولعل قصة زيادة أعداد الجيش المصرى بعد معاهدة ١٩٣٦ أحد الدلائل على ذلك، ولم يقدم الاستعمار الإنجليزى أو الفرنسى الخبرة الكافية لهذه الجيوش العربية الوليدة، بل وفرض الغرب حظرًا للسلاح، وهذا يبرر ما عُرِف فى مصر بقضية الأسلحة الفاسدة، حيث راح البعض يشترى سرًا أسلحة من مخلفات الحرب العالمية الثانية. وكما يرى الأستاذ هيكل فى كتابه «العروش والجيوش» كيف دفعت العروش الجيوش العربية إلى فلسطين فى ظل الدعايات والثقة الزائدة، وكيف أدركت الجيوش أن العدو ليس فقط فى فلسطين ولكن فى بلادهم. وربما يفسر هذا ظاهرة الانقلابات العسكرية فى العالم العربى بعد حرب ٤٨، ولذلك كتب جمال عبدالناصر فى «فلسفة الثورة» عن ذكرياته مع انتهاء الحرب وعودته أن العدو فى القاهرة.
من هنا كانت ضرورة التغيير، ومحاولة إعادة بناء الجيوش العربية من جديد، وكسر احتكار السلاح، لذلك بدأت مصر على وجه الخصوص هذا المجهود بما عُرِف بصفقة الأسلحة التشيكية، وبدايات مشاريع التصنيع الحربى. وهنا سنشاهد صفحة جديدة فى القضية الفلسطينية، سنتابعها فى المقال المقبل.