محمد الباز يكتب: سياسة التطويق.. شفرة مصر فى التعامل مع إثيوبيا
لا تُخفى مصر موقفها فى قضية سد النهضة، لا يوجد لديها وجه سرى فى الأزمة ووجه علنى تتحدث به أمام العالم.
تتعامل مصر كعادتها بوجه واحد فقط، وهو ما يعكس سياستها الشريفة حتى فى أعقد ملفاتها وأكثرها تشابكًا.
استجابت مصر لكل جولات التفاوض التى طلبتها أديس أبابا، لم تتردد عن الجلوس على مائدة المفاوضات، رغم علم وخبرة المفاوض المصرى بنوايا إثيوبيا، وتكنيكاتها التى اتبعتها خلال الجولات التى طالت واستطالت، وهى تكنيكات أراد المفاوض الإثيوبى منها كسب أكبر قدر من الوقت، لحاجة فى نفسه كان الجميع يعرفها ويشهدها، وهى إنجاز أكبر قدر من السد على الأرض، حتى يصبح وجوده أمرًا واقعًا يصعب التعامل معه.
سير مصر فى الطريق السياسى والدبلوماسى لم يمنعها من خوض معركة من نوع آخر، نرى أثرها على الأرض دون أن تكون لدينا تفاصيلها، وهو أمر لا يجب أن نستهجنه، لأنها معركة فى قلب مساحات الأمن القومى المصرى التى لا يطلع عليها أحد.
حاول أن تقف أمام خريطة لدول القرن الإفريقى، وراجع فقط ما فعلته مصر خلال السنوات الماضية من نسج حقيقى وعملى مع الدول التى تحيط بإثيوبيا من كل اتجاه، ستعرف أن التحرك الخارجى المصرى لم يكن عشوائيًا، بل كان بحسابات دقيقة جدًا.
عندما قرر الرئيس عبدالفتاح السيسى زيارة جيبوتى، وأعلن من هناك عن أنه أول رئيس مصرى يزورها، لم يكن الأمر مفاجئًا، فجيبوتى هى المنفذ الوحيد لإثيوبيا على البحر الأحمر، هى فعليًا لا توجد لها حدود بحرية.
لا يتخيل أحد أن مصر تآمرت مع الدول المحيطة بإثيوبيا، ولكن ما فعلته مصر أنها وببراعة قامت بتطويق أديس أبابا من كل حدودها الجغرافية، أقامت علاقات دولية على أسس متينة من تبادل المصالح، وهى اللغة التى تعترف بها الدول، وقعت اتفاقيات على أسس اقتصادية وأمنية وعسكرية مع هذه الدول، وهى الاتفاقيات التى سيتم تفعيلها فى الوقت المناسب تمامًا.
راجع مثلًا علاقات مصر مع الصومال والسودان وجنوب السودان وكينيا وأوغندا وبوروندى، وما قدمته مصر لهذه الدول ليس على مستوى التعامل السياسى البراجماتى النفعى فقط، ولكن على مستوى تدخل مصر للمساهمة فى تنمية هذه الدول والوقوف إلى جوارها فى أوقات أزماتها.
كان صانع القرار المصرى يعرف أنه سيأتى الوقت الذى يحتاج فيه حلفاء أقوياء يكونون سنده فى أزمة سد النهضة التى تتعامل إثيوبيا معها بسياسة «الحافة»، فهى تسير فى طريقها إلى النهاية غير مهتمة ولا عابئة بأحد أو بشىء، وهو ما يفسر لنا عدم استجابتها لأى محاولات تدخل من أى جهة فى العالم، بل وتهربها من الالتزام بأى اتفاق أو تعهد، للدرجة التى شك كثيرون أن هناك قوى خفية تسند إثيوبيا وتساعدها فى مواجهتها مع مصر.
الفارق الذى لا بد أن نثبته هنا، من باب التوثيق على الأقل، أن تحالفات مصر معلنة، واتفاقياتها تتم على مرأى ومسمع من العالم، وعندما أقول إن تطويق مصر لإثيوبيا من كل جانب فأنا لا أذيع سرًا أبدًا، فالأمر معروف للجميع.
لم يكن موقف مصر فى أزمة سد النهضة، الذى تعامل معه البعض ربما باستهانة، إلا نوعًا من الدبلوماسية التى تجيدها مصر الآن.
لا أخفى عليكم أننا عندما كنا نتحدث مع مسئولين كبار- على صلة بهذا الملف- ويقولون لا بد من أن نتحلى بالصبر، كنا نضيق بما يقولون، ونعتبر كلامهم استسلامًا لا يليق بمصر، لكننا عندما نتأمل الصورة الآن ندرك أن الصبر الذى كان يتحدث عنه المسئولون لم يكن إلا توصيفًا دقيقًا لمهمة شاقة كانت تقوم بها الدولة المصرية، وهى المهمة التى كانت تحتاج منهم للصبر ليتمكنوا من تنفيذها، وتحتاج منا للصبر لنرى آثارها على الأرض.