حكمة العالم الغائبة بشأن فلسطين
لا يغيب عن العالم شيء، في أثناء الحروب الإسرائيلية الوحشية على الفلسطينيين، قدر ما تغيب الحكمة، الحكمة التي هي العلم والفلسفة والمعرفة والتبصر بحقائق الأمور وكنهها وجوهرها (كما تقول المعاجم اللغوية واصفة أهل الحكمة بأنهم أصحاب القيم السابقة)؛ فمن أول الإعلان عن جريان الأحداث السيئة على أنه جريان صراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وهو الإعلان الخاطئ، لأن الجاري هو انتهاك إسرائيلي مستمر للأراضي والمقدسات، واستهداف لشخصيات فلسطينية لا تروق الأجهزة الإسرائيلية بالاعتقال أو التصفيات الجسدية، وخرق لكافة الاتفاقيات، وقهر شديد للنساء والأطفال وكبار السن، وتعطيل كامل للمرافق الحيوية وما إليها، بكل القطاعات، وإهدار أكيد لقيمة الحياة بذاتها!
من أول هذا الإعلان الخاطئ، وانتهاء بتقييم الموقف على الأرض، عقب الأحداث الدموية التدميرية المأساوية المؤسفة التي لا تنقطع، لأنه يكون تقييما منحازا إلى الجاني الذي يملك العلاقات النافذة انحيازا مطلقا، ومرورا بما يتوسط ذلك طبعا من سقوط تعابير مهمة كفلسطين المحتلة أو فلسطين التاريخية أو الأراضي المحتلة، وهي التعابير الضرورية التي تؤكد عدم الاعتراف بالكيان الغاصب الأخطبوطي الاستيطاني أو في الأدنى عدم الاعتراف بشرعية حكم قادته للمنطقة موضع احتلاله.
إن كنت هنا أخص العرب بما أقول، إلا أنني لا أبرئ جميع الدول من تهمة غياب الحكمة بإزاء الشأن الفلسطيني، بما يجعلني في الواقع أدين العالم كله بفكرة غيابها كما بدأت الكتابة؛ فتاريخ الصراع العربي الإسرائيلي واضح تماما وتاريخ احتلال فلسطين أشد وضوحا، على مرحلتين، الأولى في 1948 والثانية في 1967.
تكون مصيبة عندما يقول سيد من سادات الغرب، كأنه لم يقرأ حرفا واحدا من التاريخ الثابت المتاح، إن القدس هي عاصمة إسرائيل، وإن على الفلسطينيين الخضوع للشريك الأغنى والأقوى، وعليهم ضبط النفس مهما نزل بهم مكروه أو مسهم ضرر أو حاقت بهم خسارة..
وتكون المصيبة أكبر عندما يقول عربي إن الفلسطينيين هم سبب ما يجري لهم،
وإنهم لا يستحقون تعاطفي، وإن إسرائيل دولة فعلية لها جذورها هناك، وإن بين الفلسطينيين فصائل متشددة، تتعمد الكذب بطرح نفسها كمقاومة دفاعية بينما طبيعتها هجومية، وينبغي استئصالها من جذورها.. ومثل ذلك من الكلام الذي يغري بالتصديق لكن معظمه متهافت، وإن أراد بعض الناس حديثا إيضاحيا بخصوص شقه الأخير بالذات، أعني ما يتعلق بالفصائل المتشددة، فيكفي القول إن المجموع الفلسطيني العام قادر على الفرز والطرد، والتفريق بين من يعمل لمصالحه ومن يعمل للتراب والعلم، وإن التعنت الإسرائيلي السرمدي في رفض العودة لخطوط سبعة وستين التي يكمن فيها حل للمعضلات، مع بقاء الأوضاع العسيرة المؤلمة نفسها بل تفاقمها، يخلق ظلاما هائلا يندس فيه من يندس من الأدعياء وذوي الأغراض وشذاذ الآفاق، والواجب تقدير الأمور داخل سياقها لا خارجه!