المفكر السورى محمد حبش: نحتاج إلى «إخاء إنسانى» على قاعدة «لكم دينكم ولى دين» (حوار)
شدد على ضرورة إعادة الاعتبار لـ«الإسلام الصوفى المتسامح» الذى يقبل الاختلاف فى الفقه والعقيدة
المرجعيات الدينية تستنكر العمل العنيف لكنها تعود لتأسيسه على مقاعد الدرس
نتعامل مع الماضى بقداسة مفرطة وبات من الواجب ممارسة النقد البنّاء لعصور السلف
لا يهم فى الفقهاء كثرة الصوم والصلاة والالتزام بظاهر النص الدينى بل علمهم بحاجات الأمة واستنباط القوانين الحيوية
اهتم المفكر الإسلامى السورى محمد حبش عبر نشاطه البحثى والأكاديمى وإصداراته التى تربو على الأربعين كتابًا بالتجديد الدينى، إذ أصدر العديد من الكتب منها «النبى الديمقراطى»، و«المسلمون وعلوم الحضارة»، و«إسلام بلا عنف»، و«منهج التجديد والإصلاح»، و«المعتمد فى أصول الفقه»، و«المشترك أكثر مما نعتقد»، كما أسس فى سوريا «مركز الدراسات الإسلامية» و«رابطة كتاب التنوير»، وعمد إلى تعزيز خطاب التنوير الإسلامى عبر المشاركة فى عدة مؤتمرات إسلامية، فضلًا عن انتخابه مرتين رئيسًا لجمعية علماء الشريعة فى سوريا.
درس «حبش» العلوم الإسلامية فى المعهد الشرعى للدعوة والإرشاد، ونال الإجازة فى الشريعة من جامعة دمشق، كما حصل على ثلاث درجات ليسانس فى العلوم العربية والإسلامية من جامعات دمشق وطرابلس وبيروت، ثم حصل على الماجستير والدكتوراه من جامعة القرآن الكريم فى الخرطوم، ويعمل حاليًا أستاذًا للفقه الإسلامى فى جامعة أبوظبى.
«الدستور» حاورت المفكر السورى، الذى نالت أطروحاته استحسان قوى تنويرية عدة، حول عدد من القضايا التى تبنّى الدفاع عنها فى كتاباته، على رأسها محاربة الفكر المتطرف، وتجديد فقه المرأة، والتركيز على أهمية الإخاء بين الأديان انطلاقًا من كتابه «إخاء الأديان» الصادر حديثًا عن دار «مؤمنون بلا حدود».
■ صدر لك حديثًا كتاب بعنوان «إخاء الأديان» وفيه تستعرض نصوصًا من الإسلام تدعم فكرة إخاء الأديان كما أوضحت، لكن فى المقابل فإن النصوص التى يُستدل بها على عكس ذلك تحظى بانتشار يسهم فى دحض أى رؤى تنويرية.. كيف تنظر إلى تلك المسألة؟ وكيف يمكن تجاوز تلك الأفكار والانطلاق نحو رؤية إنسانية واسعة تستوعب الجميع فى نطاقها؟
- كتاب «إخاء الأديان» خلاصة جهد استمر أكثر من عشرة أعوام، وأعتبره رسالتى التى لخصتها بإخاء الأديان وكرامة الإنسان.. بالطبع يفترض أن يحترم كل إنسان كلمة إخاء الأديان، ولكنها، للأسف، تصطدم بنصوص قاطعة فى معظم الأديان تؤسس لاحتكار الحقيقة والخلاص والجنة، الأمر الذى يجعل من ينادون بهذه الغايات النبيلة فى دائرة الاتهام.
وفى الواقع فليس القصد الأديان، بل الإنسان، وما نسعى له هو الإخاء الإنسانى، ولكن لا بد من التركيز على إخاء الأديان لسببين: الأول، لأن التعصب الدينى بات أكثر مصادر الكراهية فى العالم، وفى بلادنا بات الصراع المذهبى والدينى سببًا جوهريًا فى التشظى المجتمعى والحروب التى تتوالى بأشكال مختلفة.. والثانى: إن سائر مراكز الدراسات تؤكد أن الانتماء الدينى هو حال ٨٧٪ من سكان هذا الكوكب، طبعًا الانتماء وليس الالتزام، ما يكفى لإثارة مشاعر احتكار الحقيقة.
بالتالى لا بد من مواجهة هذا الواقع لأن الناس وإن كانوا غير ملتزمين بأديانهم، فإنهم فى ساعة الأزمة يعودون إلى اصطفافهم التقليدى، وهو ما يتطلب مزيدًا من العمل والجهد فى بؤرة الصراع.. وحتى نكون واضحين فقد أكدنا أن المقصود هو إخاء الأديان القائم على احترام المختلف وليس على اعتقاد صوابه، فلا يقول بصواب المتناقضات إلا مجنون، فليس المقصود التماهى مع الآخر وتصويب كل معتقد، بل القصد هو احترام إيمان الآخرين على قاعدة «لكم دينكم ولى دين».
ومن ثم، فالكتاب يتناول بدقة أدلة الإخاء الدينى من مصادر الإسلام العشرة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستحسان والاستصلاح والعرف والذرائع والاستصحاب وشرع من قبلنا، ويقدم الأدلة ويستحضر فى الوقت نفسه الأدلة التى تقابلها ويناقشها، ويقدم سياقًا متصلًا من أدلة الشريعة لمبدأ إخاء الأديان، ثم يقدم استقصاءً تفصيليًا لأئمة الإسلام الكبار من فلاسفة وحكماء وفقهاء وحقوقيين من الذين سبقوا إلى القول بإخاء الأديان كما نتبناه، ويكشف عن أن مبدأ إخاء الأديان نادى به مئات المفكرين والفلاسفة خلال التاريخ الإسلامى، وللأسف فإن الطبقة الأكثر رفضًا لمبدأ إخاء الأديان هم رجال الدين فى كل الأديان.
يستعرض الكتاب كذلك مواقف الأديان المختلفة، ويستوفى سبعة عشر دينًا سائدًا فى العالم، ويستخرج من كلام حكماء الأديان مواقف الإخاء الدينى، ويؤسس للجسور المشتركة بين الأديان، كما يستعرض مواقف فلاسفة عصر الأنوار بشكل خاص الذين نجحوا فى تحويل المزاج العام فى المسيحية من عقيدة احتكار الخلاص واحتقار المخالفين إلى عقيدة إنسانية تؤمن بالتعدد والاختلاف وتحترمه.
■ قلت «نعيش آخر عصور التعصب الدينى».. ما الذى قصدته هنا؟ وكيف يمكن الركون إلى أمل بنهاية نفق التعصب الدينى المظلم فيما يعتصر العالم بويلات التعصب الدينى وما ينجم عنه من عنف وإرهاب؟
- أرجو ألا أكون قد وقعت فى مطب الإفراط فى التفاؤل، لأن الواقع العربى لا يُبشّر بذلك أبدًا، ولكنه سياق التاريخ، وبالمقارنة مع أوروبا فى القرن الثامن عشر فإن الروح الصليبية التى أشعلت الحروب باستمرار نحو ثمانية قرون كانت جاهزة للاستمرار وتملك كل موارد النصوص المتعصبة والتاريخ الدموى المقدس، ولكن الجهود الجبارة التى قام بها عمالقة الفكر الأوروبى، وبشكل خاص إيمانويل كانط وفولتير ورينيه ديكارت وجان جاك روسو ولايبنتز وفيورباخ وهيجل، نجحت فى النهاية فى التأسيس للمذهب الإنسانى فى المسيحية وفرضت على المجتمعات المسيحية التخلى عن فكرة احتكار الخلاص واحتقار المخالف، إلى اعتماد القيم الديمقراطية فى الإيمان، وهو ما أوقف الحروب الدينية وفتح الحوار وأعاد أنسنة الديانة المسيحية بعد قرون من الحروب الدينية الضارية.
إننى أراهن على أن نقوم بهذا الدور، وأعتقد أن الإرادات السياسية فى البلاد العربية والإسلامية تتقبل ذلك وتسهم فيه، فيما تعيش الدول الفاشلة، وبشكل خاص اليمن وسوريا والعراق، الفوضى المدمرة التى توفر جحيم الصراع على كل المستويات والذرائع.
■ ما السبب، برأيك، فى انتشار الأفكار الدينية المتكلسة والرجعية فى مقابل خفوت أثر الآراء التنويرية لمختلف المفكرين الإسلاميين على مدار العصور؟ ومَنْ المسئول عن تغييب العقل على حساب النص فى الخطاب الدينى السائد؟
- قناعتى أن الأمر سياق تاريخى عاشته معظم الأمم فى سقوطها الحضارى، ولكن لا بأس من الإشارة إلى بعض المنعطفات المهمة، فقد كانت سيطرة الحركة الوهابية على الحرمين الشريفين واعتماد سياسة نصية حرفية صارمة ونشرها فى العالم الإسلامى سببًا جوهريًا فى انتشار ما أسميه عبادة النص، وانحسار دور العقل، وبالفعل فقد انتشر التفكير القائم على مبدأ حراسة التوحيد الذى يقتضى محاربة كل أنواع الشرك، وقد اندرج فيها ببساطة كل الأنظمة والأنماط الاجتماعية السائدة فى العالم الإسلامى ومنها الصوفية والأشعرية والتيارات العقلانية والعلمانية.
لقد بدأ هذا الصراع بين العقل والنص، أو بين الرأى والرواية، منذ فجر الإسلام، ويمكن القول إن مذهب العقل والفقه انتصر خلال العصر الذهبى للإسلام، وأنتج عشرة مصادر للشريعة تمتاز بالمرونة والتسامح، تشاركت فيها المذاهب والأديان والتيارات الاعتزالية والعلمانية بقدر ظاهر وواضح، واستمر ذلك أكثر من عشرة قرون، ولا مناص من القول إن الحركة الوهابية كانت انتصارًا لتيار النص على تيار العقل ولتيار الرواية على تيار الفقه، وبالتالى ولادة التيارين الأساسيين فى السلفية: السلفية الجهادية المقاتلة والسلفية العلمية المحتكرة للإيمان، وبالتالى انتشار التشدد بالصيغة المعروفة.
وقد استفاد هذا التيار الغاضب بشكل كبير من الفشل السياسى فى أفغانستان والعراق وسوريا واليمن وليبيا، فأسس كيانات سياسية مدمرة، كما شكل، ولا يزال، كيانات خطرة فى كل عواصم العالم التى تنتشر فيها الجاليات الإسلامية.. وكذلك كان قيام المشروع الإيرانى ببعده الطائفى سببًا مباشرًا للصدام العنيف وتفجير ذرائع القتال لدى السلفية الجهادية والسلفية الشيعية فى مناطق التوتر وبؤر الصراع.
ويجب القول إنه لا يكفى أن نتبرأ من العنف لنكون فى عافية وخير، فالمرجعيات الدينية تبادر لاستنكار العمل العنيف دومًا، ولكنها تعود لتأسيسه على مقاعد الدرس، وعلى سبيل المثال فإن قتل المرتد وقتل تارك الصلاة وتحقير المشرك المختلف فى الدين كلها لا تزال فى مناهج التعليم الدينى، سواء فى السعودية أو فى الأزهر وفى دمشق.
■ هناك دائمًا معضلة تواجه الفكر التجديدى للدين الإسلامى، تتمثل فى التمسك بآراء فقهية قديمة كانت استجابة لمعطيات تاريخية لم تعد موجودة.. هل ثمة حدود يفرضها الإسلام للاجتهاد الدينى؟ وما الحدود أيضًا التى ينبغى الوقوف عندها فى استدعاء النصوص الفقهية القديمة؟
- فى كتابى «نظام الحكم فى الإسلام»، المقرر فى جامعة أبوظبى، طالبت بإعادة الاعتبار للفقه الذى هو التفسير الواقعى المتطور للنص القابل للتطور والتغير بواقع تغير الزمان والمكان، ولا أقصد بالطبع الفقه القديم الذى أدى رسالته وانتهى دوره، بل أقصد الفقه المستمر القائم على أصول الفقهاء والمستعد للتطور مع الحياة وإيجاد الحلول لكل جديد، وحتى أكون واضحًا فأنا أقصد بالفقهاء هنا رجال الفقه والقانون من الحقوقيين الذين اطلعوا على النص الدينى، واطلعوا على تجارب الأمم والقانون الدولى، وهم رجال القانون الذين تنتدبهم الدولة الحديثة لكتابة القانون فى ضوء مصالح الأمة وحاجاتها وتجارب الأسرة الدولية، مع الاحترام للتاريخ الإسلامى كنص وفقه ورواية، ولا يهم فى هؤلاء الفقهاء كثرة الصوم والصلاة والالتزام بظاهر النص الدينى، بل علمهم بحاجات الأمة واستنباط القوانين الحيوية التى تنفع الناس.
إن دساتير الدول الإسلامية فى ٥٣ دولة من أصل ٥٧ دولة إسلامية كُتِبت بلغة فقهية متطورة، وباتت تؤسس لإخاء الأديان وكرامة الإنسان واحترام النص الدينى، وكذلك قوانين المعاملات والدفاع والصحة والمرور والاقتصاد التى يكتبها خبراء متخصصون فى كل قانون، وهؤلاء تحديدًا هم من نسميهم الفقهاء، وكذلك كان اسمهم فى التاريخ الإسلامى عندما كانوا يكتبون القوانين والأسس الناظمة لبناء الدولة والمجتمع فى الدول الإسلامية عبر التاريخ.
ولا شك أن الفقهاء بهذا المعنى أبعد ما يكونون عن طبقة رجال الدين التى تقف عادة ضد كل تطور وتحديد وتحديث.
■ ما السبيل إلى استعادة البُعد الروحى فى الدين الذى جرى تغييبه جراء خطاب دينى متطرف؟ وما الأهمية التى يُمثلها ذلك فى الوقت الراهن؟
- مع الأسف، لقد عاش المسلمون فى غمار حياة دينية بسيطة أسميها الإسلام الشعبى، قائمة على قيم التسامح والمحبة والغفران، قبل أن ينتشر التيار المتصلب فى العقيدة الذى لا يقبل أى خلاف، لقد كان الخلاف الفقهى فى المجتمعات الإسلامية كالخلاف الاعتقادى وكانت الناس تتقبل شعبيًا هذه الاختلافات، لقد كتبت مقالًا بعنوان الإسلام الشعبى، وفيه أستعرض مثلًا المسجد الأموى فى الشام الذى زاره كل فقهاء العالم الإسلامى وصلوا فيه، وذكروه بكل احترام، ولكن التيار السلفى اليوم بات يرى فى هذا المسجد عشرين بدعة منكرة توجب هدمه، وهذه الحقائق التى تقبلها المسلمون على مر القرون بكل محبة وتسامح باتت اليوم تعتبر من أشد مظاهر الشرك ولا أشك أبدًا أنه لو تمكن منها التيار السلفى فسيفعل بالمسجد كله ما فعله بمسجد النبى يونس فى الموصل دفاعًا عن التوحيد وقمعًا للشرك!
تجب إعادة الاعتبار للإسلام الصوفى السهل المتسامح الذى يقبل الاختلاف فى الفقه والعقيدة ويأذن بالتعايش والإخاء، وهذا هو الواقع الطبيعى للمجتمعات الإسلامية قبل أن يصل إليها خطاب التشدد.
■ قوبِل كتابك «المرأة بين الشريعة والحياة» بهجوم عنيف بسبب انتهاجك منهجًا فقهيًا غير سائد.. لِم برأيك تواجه الكتابات التنويرية الخاصة بقضية المرأة على وجه التحديد بسيل من الهجوم مهما اختلف المنهج المُتبع؟
- لقد كان موقف رجال الدين من كتابى ضاريًا وشديدًا، وخسرت عملى كأستاذ جامعى عدة سنوات قبل أن أستأنفه فى بلد آخر، ومن المؤلم أن رجال الدين لا ينظرون للمرأة إلا ضمن إثنية صارمة، إما قديسة وإما عاهرة، ولديهم الاستعداد لوصم كل عمل إصلاحى فى شئون المرأة بأنه تآمر على الأسرة المسلمة واستجداء للغرب وخيانة للقيم الإسلامية فى العفاف.
ومع أن الكتاب لا يختار أدلته إلا من الأئمة المعتمدين عند فقهاء أهل السنة والجماعة وليس فيه أى رأى جديد، ولكنه اعتُبِر مشروع هرطقة وزندقة «كما صرح علنًا بذلك الشيخ البوطى»، وقد قُلت فى مقدمة الكتاب: إن جميع الآراء والفتاوى التى تقرأها فى هذا الكتاب معروفة فى كتب الفقه والرواية، ولها أدلتها من الكتاب والسنة، وأشرت إلى مواضعها فى مظانها، ويقتصر دورى على نشرها وتوظيفها للإجابة عن أسئلة محددة، ولكن رجال الدين قد حكموا عليها تاريخيًا بأنها قراءات شاذة وبات الاقتراب منها عدوانًا على الشريعة.
على كل حال لقد ظهر من الكتاب، حتى الآن، ست طبعات، وفى اعتقادى أنه قدم رؤية جديدة للإسهام فى تمكين المرأة، وصرحت بوجوب تحويل الحجاب من دائرة الفرض الواجب إلى دائرة المستحسن الجميل، ومنح المرأة الحرية والمسئولية فيما تختاره من لباس وزى وطالبت بوقف معركة الأزياء التى يعتبرها كثير من الإسلاميين والعلمانيين على السواء معركة مصيرية يربطون بها كل قيم النهضة والتخلف.
وأشعر بمرارة بواقع المرأة المسلمة التى فرض عليها الغياب عن الحياة بسبب أوهام غير واقعية، ومؤخرًا نشرت مواقع التواصل حفلات تكريم النساء فى إدلب وحلب وقد فرض النقاب على الجميع فرضًا صارمًا لا يوجد فيه أدنى استثناء، وكان أمرًا محزنًا أن بنات فى سن الورد أمرن بالنقاب الأسود الكامل، وهو واقع جديد حتى على هذه الأرياف المحافظة، فى حين أنها كانت فى عصر الرسالة شريكة وقيادية ولم يكن مجتمع النبوة نفسه يعرف هذا الفصل الصارم بين الذكور والإناث الذى يفرض على المرأة المسلمة فى الأرياف ويحول دون علمها وتحصيلها وسفرها ومشاركاتها الرياضية والفنية والعملية.
■ من المنوط به تحرير العقل الإسلامى من تقديس الماضى وشخوصه وإدخال بذرة النسبية فى الرؤى الدينية؟ وإلى أى مدى يمثل ذلك ركيزة فى محاربة التوجهات الأحادية والتكفيرية؟
- إننا نتعامل مع الماضى بقداسة مفرطة، لقد أنكر القرآن الكريم على المسيحيين الغلو فى تعظيم عيسى بن مريم، وقال «يا أهل الكتاب لا تغلوا فى دينكم»، وقد وقعنا فى هذا الغلو نفسه، فى تقديس تراثنا كله، فالنص مقدس والصحابة مقدسون والأئمة مقدسون والرواية مقدسة وحروب الردة مقدسة والغزوات مقدسة ويختصر كثير من الإسلاميين رسالتهم كلها فى العودة إلى عصر السلف المقدس، وهى القرون الخيرية الثلاثة التى وردت بالنص.
ولكن هذه القرون الخيرية شهدت حروبًا ضارية بين المسلمين وانقسامات ونزاعات مريرة، وقدمت مواقف لا تتناسب إطلاقًا ومكان القدوة، وبات من الواجب ممارسة النقد البنّاء لما فيها، الأمر الذى يصنف دومًا بأنه التلاعب بالثوابت!
لقد طرحت المسألة بجرأة ووضوح؛ إن المستقبل هو المقدس، أما الماضى فقد حكم فيه الله تعالى بآية تكررت مرتين، وأنا أسميها آية السلف الصالح: «تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون».
■ ثمة خطاب من الجانبين الدينى والعلمانى يرسخ لفكرة التعارض بين الدين والعلمانية فيما ترى أن الإسلام يزخر بأسس علمانية.. ما الذى تقصده فى هذا الصدد؟
- الإسلام الذى تقدمه السلفية الجهادية لا يمكنه التصالح مع أى تيار علمانى، وكذلك العلمانية اللائكية التى تطالب بشنق آخر ملك بأمعاء آخر قسيس لا يمكنها التعايش مع أى دين. ولكن العلمانية بما هى احترام الأديان وكرامة الإنسان وفصل الدين عن الدولة يمكنها أن تعمل بتشارك حيوى مع التيارات الدينية، وكذلك الإسلام الشعبى التاريخى، الذى عاشه الناس قبل ظهور التيارات السلفية المتشددة فى الاعتقاد فى ظلال المذاهب الأربعة والطرق الصوفية، يمكنه أن يعيش فى بيئة متعددة دون احتمالات صراع أو صدام عنيف.
لقد ناقشت هذه المسألة فى كتابى «العلمانى والفقيه»، وقلت إن المطلوب هو مراجعات عميقة فى المنهج، وكما نتحدث عن السلفية المتشددة، فإن العلمانية العربية خصوصًا باتت تقدم نماذج ساخطة غاضبة ترفض التعايش مع قيم الدين، وهذا فى الواقع تطرف لا يمكن أن يعود بأى خير على مجتمعاتنا الإسلامية، لقد قلت لهم يومًا أيها العلمانيون إنكم تتحولون بشكل متسارع لتكونوا أيضًا طائفة مغلقة فيها كل ما فى كهوف الطوائف من انغلاق وريبة وسوء ظن وعجز عن التعامل والتكامل.