أبونا الراحل صرابامون
في الجمعة الأخيرة من رمضان، الجمعة اليتيمة التي وافقت السابع من مايو، لقي أبونا القمص صرابامون الشايب ربه متأثرا بإصابته بكورونا، واليوم الذي انتقل فيه إلى الأمجاد السماوية يصادف عيد ميلاده، سبَّب رحيله المفاجئ صدمة حقيقية للجميع؛ فهو محبوب من الجميع بلا أدنى مبالغة، كما أنه مقاوم شجاع، ولم يكن أحد يظن، مع إعلانه عن الإصابة بالفيروس الوبائي، أن حالته ستتدهور وسيصل الأمر إلى الوفاة..
القمص صرابامون هو أمين دير القديسين بالطود بالأقصر، درس الفلسفة في جامعة الإسكندرية، ولعل دراسته إياها ما جعلته رجل دين عقلانيا بامتياز؛ فقد كان تنويريا توعويا، وفي الآونة الأخيرة بالذات، بذل جهودا مضنية من أجل حث أحباب الكنيسة على الالتزام الكامل بالإجراءات الاحترازية وعدم التسيب والإهمال الذي يضاعف فرص الوباء في الصيد وينقل عدواه، بل طالب قداسة البابا بإغلاق الكنائس لما رصده من تزاحم حوى مصابين لا يبالون.. كان كمن يقول للناس: لا تفعلوا الخطأ معتمدين على الحراسة الربانية؛ فالرب لا يرضى بأذيتكم لأنفسكم ولا للآخرين، وقد لا يحميكم!
كان مقبلا على الحياة أيضا إقبال المتفائلين؛ فصوره الشخصية أغلبها كان في الأماكن الفسيحة التي تضم زرعا ووردا، كمثل رحبة صدره وتفضيله للجمال، وكان ودودا للغاية بحيث لو صنع أحدهم تعليقا طيبا على صفحته بالسوشيال ميديا، أيا كان اعتقاد الصديق ومهما كانت بساطة التعليق، فإنه يرسل له رسالة شكر على البريد الخاص، متمنيا له الخير والتوفيق، ولقد حدث الأمر مع معظم أصدقائه في الفضاء الافتراضي، وأذاعوه فخورين.
تعلم الناس من الأب الراحل أن يحبوا العالم محبة صادقة ويؤمنوا بالسلام إيمانا يقينيا.. ألا ينتظروا مقابلا لهذه المحبة وأن يعرفوا أن معناها أكبر بكثير من مبناها وأن يساهموا في خلق هذا السلام كما يسارعون إلى حصد ثمره إذا صادف وجوده وجودهم.. تعلموا منه أن الأبوة الدينية لا تعني تسلطا باسم الرب على العباد، وهو المشهور في قاموس المعاملات بين البشر ورجال الدين للأسف، وإنما تعني اللطف الذي يعزز الإرشاد الروحي ويقود إلى الهدى بأمان..
أفكر الآن، بجدية، فيما يمكننا فعله لتخليد هذا الأب بالغ الرقي والنقاء، الكنيسة عليها تكريمه كشخصية دينية محترمة، أدت مهمتها على أكمل وجه، مهمة الخدمة والرعاية لرواد الكنيسة وأبنائها، كما ألزمت خطاها بطريق المسيح، أما أنا فأفكر في تكريمه كشخصية عامة، لها سيرتها العطرة وأثرها الإيجابي في مجتمعها الصغير الذي منه يتشكل المجتمع الكبير الوطني؛ فقد جاوزت البعد الديني الكنسي إلى آفاق أرحب بعيدا عن الإعلام العاصمي، حاربت التشدد وأنارت الأركان المظلمة ونشرت ثقافة التسامح ووحَّدت الخلق، بالجملة، ولم تفرِّقهم.. أطلقوا اسم أبينا الراحل ولو على شارع بمركز الطود بالأقصر؛ فهو قدوة حسنة بلا جدال!