إبراهيم داود عن «الشعشاعى»: صوت قديم وجذوره متشعبة ونبرته مقنعة
يشير الشاعر إبراهيم داود، عن ذكرياته مع كبار مشايخ دولة التلاوة المصرية٬ والتي سجلها في كتابه "طبعا أحباب.. جولة في حدائق الصادقين"٬ والصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب٬ إلى أنه ولسنوات كان واقعا في غرام الشيخ المقرئ مصطفى إسماعيل والذي يصطحبه إلى "عوالم السكينة والدهشة والمفاجأة".
وعن صوت الشيخ المقرئ عبد الفتاح الشعشاعي وكيف تعرف عليه الشاعر إبراهيم داود يقول: "كنت أجلس في مقهي بالجمالية٬ وإذا بصوت الشيخ الشعشاعي يطل من إذاعة القرآن الكريم في تسجيل نادر٬ شعرت أنني مقصر في حق نفسي٬ جعلني أستدعي مشاعر طفولية صافية٬ وذكرني بأصوات لم تذهب إلى الإذاعة صادفناها٬ ولكنها حفرت في الواحد منا أجمل ما فيه، تخيلت نفسي أتجول أيام الصبا قبل الامتحانات حول حقول قريتي حاملا الكتب٬ وفي العودة مع المغرب أو العشاء٬ تجد رجلين أو ثلاثة في "مصلية" مبللين من الوضوء ويدفعون رجلا بسيطا ليكون إماما لهم. لا تعرف من أي حديقة جاء صوته٬ يقرأ فتشعر بطزاجة القرآن٬ هو ينهل من كل ما هو جميل في الكون٬ هو غير معني بشئ٬ غير نقل المعني بفطرة نقية وصوت نقي وروح طيبة".
ويواصل داود: "عندما هل الشعشاعي هذه المرة أعادني إلى تلك اللحظات الصافية في طفولتي وصباي٬ صوته فلاحي أصلي٬ يجمع بين آلتي التشيللو والأرغول٬ قادم من دهاليز الحكمة المجردة والحسم المحبب٬ لا يبحث في النغم قدر ما يبحث في المعني٬ متدفق مثل النيل وقوي وحنون في الوقت نفسه، كنت أعتقد أن تسجيلاته نادرة ولكني فوجئت وأنا سعيد أنه موجود على يوتيوب والساوند كلاود بوفرة٬ وأن محبوه في العالم العربي أكثر مما أحلم".
وأضاف: تتبعت سيرته الفنية منذ مولده في قرية شعشاع في المنوفية في عام 1890 وحتى وفاته 11 نوفمبر 1962 وكيف تربي في المعهد الأحمدي بطنطا٬ وانتقاله إلى القاهرة وتعلمه في الأزهر٬ لقد وصل القاهرة في زمن كان فيه نجوم فن التلاوة بالعشرات٬ كان أحمد ندا٬ ورفعت العظيم٬ والصيفي٬ وعلي محمود٬ وغيرهم يظللون سماء القاهرة بكلام الله٬ ولم يجد الشيخ مكانا في البداية٬ فقرر أن يكون فرقة للتواشيح٬ لإحياء حفلات الزواج والطهور وما إلى ذلك٬ وكان بين فرقته هذه الشيخ زكريا أحمد صاحب الروح الجميلة٬ الإثنان تجمع بينهما الفراسة والطيبة وعمق الصوت٬ وكان واحد منهما يريد أن يحقق حلمه٬ أن يعود الشيخ عبد الفتاح لقراءة القرآن٬ وأن يتجه الشيخ زكريا إلى التلحين٬ وهذا ما حدث٬ في الليلة الكبيرة لسيدنا الحسين٬ تجلي الشعشاعي في ليلة كان فيها رفعت٬ وندا٬ وعلي محمود٬ فتلقفته الآذان٬ فتوقف عن التوشيح سنة 1930 وبعد ست سنوات كان ثاني قارئ في الإذاعة بعد رفعت٬ وبعد أن أخرج له مدير الإذاعة فتوى شيخ الأزهر "الأحمدي الظاهري"٬ التي تجيز القراءة في الإذاعة٬ وكان أول من قرأ بمكبرات الصوت في مكة والمسجد النبوي سنة 1946 وقرأ في مأتم فؤاد الأول مع رفعت٬ ومحمد الصيفي٬ وعلي محمود٬ وفي مأتم سعد زغلول٬ وفي مأتم الملكة عالية في العراق٬ وقرأ مرة واحدة سنة 1943 في قصر عابدين٬ وعندما سمع أن "فاروق" كان يعبث في أحد الأجنحة في أثناء التلاوة في رمضان رفض الذهاب مرة أخرى، عبد الفتاح الشعشاعي صوت نادر على مقاس مزاج الفلاحين٬ لأنه صوت قديم وجذوره متشعبة ونبرته مقنعة وفتح الله عليه من أوسع الأبواب.