العارف.. زيارة خاصة إلى خلوة الشيخ جابر بغدادى
خلال السنوات العشر الماضية سقطت الأقنعة عن وجوه عدد كبير من رجال الدين الذين صنعوا شهرة واسعة فى الماضى، بعد أن اتضح أنهم يستخدمون كتاب الله وهدى النبى محمد لتحقيق مكاسب سياسية وجنى الأموال، وتأكد أن بعضهم ضالع فى جرائم إرهابية، ما صنع فجوة كبيرة بين الشباب ورجال الدين، حتى ظهر من أعاد شيئًا من الثقة المفقودة، وهو الشيخ جابر بغدادى.
الفجوة التى حدثت بين رجال الدين والشباب صعّبت مهمة أى داعية يريد أن يتواصل مع هذه الفئة، لأن هذا الجيل أصبح قادرًا على تمييز الخبيث من الطيب، والوطنى من الخائن، وسيتأكد من صحة كلام أى شخص ولن يأخذ مسلّمات دون البحث والوصول إلى اليقين.
«محتاجين تَخَلّى.. تَحَلّى.. تَجَلّى».. هكذا وجد الداعية المتصوف جابر بغدادى طريقه إلى قلوب عدد كبير من الشباب على مواقع التواصل الاجتماعى، أحاطوه بمحبة كبيرة بعدما أخذ بأيديهم إلى التدين الصحيح.
الشيخ الذى يشغل منصب نائب الطريقة الجودية الخلوتية بمحافظة بنى سويف، الذى أسس مركز «القبة الخضراء» لدراسات التصوف، بنى شهرته ببطء، عبر مقاطع فيديو تكلم خلالها عن محبة الله والحكمة وراء التشريعات الدينية، لذا أصبحت شهرته قوية وراسخة، فلم يخوف الناس من عذاب جهنم، ولم يقيدهم بفهم واحد للنصوص الدينية كما يفعل السلفيون، بل أوضح لهم كيف يحبون الله ويستشعرون وجوده حولهم فى كل مكان، فأصبح حديث الساعة على السوشيال ميديا.
هو ابن الشيخ أحمد بغدادى، الذى كان مقدم الطريقة الجودية الخلوتية ببنى سويف، ولد فى ٣ يوليو ١٩٧٧ ببنى سويف، وينتهى نسب أسرته من ناحية جده لأبيه إلى الإمام الحسن بن على بن أبى طالب.
حفظ القرآن فى سن العاشرة، وكان يرافق والده فى حلقات الذكر التى تقيمها الطريقة فى قرى ونجوع ومراكز المحافظة، أحب المديح والمداحين، وتعلم التجويد ودرس السيرة النبوية، ويحمل نحو ٢١ إجازة بالسند المتصل إلى النبى محمد، صلى الله عليه وسلم، فى علم التصوف والدعوة والإرشاد.
تخرج فى كلية الآداب بجامعة بنى سويف، وأتقن اللغتين الإنجليزية والفرنسية إلى جانب اللغة العربية، ودرس التاريخ الإسلامى والعلوم الشرعية على يد الشيخ الدكتور جودة عبدالعليم البكرى، من علماء الأزهر الشريف، وأحد أقطاب الفكر الصوفى ببنى سويف.
بدأ الرجل مسيرته الدعوية من محافظة بنى سويف، التى تمتلئ بمريدى الطريقة الجودية الخلوتية، وكان يلتقى المحبين فى مقر الطريقة، قبل أن يدشن «القبة الخضراء»، واستطاع أن يجمع حوله الشباب من جميع الأطياف، وأصبح شباب الدعوة السلفية يحضرون جلساته بعدما استطاع إقناعهم بأن العداء المفترض بين الأطياف الدينية مجرد وهم، وأن الله كبير ورحمته واسعة.
فكره الوسطى كان سببًا رئيسيًا فى إجماع الأطياف المختلفة عليه، فالرجل المبتسم دائمًا ذكى فى تعامله مع المريدين، يحدثهم وفقًا لمعجم لغوى ملىء بالمحبة، ويستخدم دائمًا كلمات مثل: «الورد والحضرة والذكر والمدد»، ويستدل دائمًا بنصوص الدين، ويرى المحبة هى طريق الوصول إلى الله.
وقال طلعت مسلم، الباحث فى الفكر الصوفى، إن أسلوب الداعية جابر بغدادى جعل الناس تحبه وتنصت له، بل وتنتظر دروسه ومحاضراته على موقع «يوتيوب» ومواقع التواصل الاجتماعى بشغف ولهفة، مؤكدًا: «الرجل غير متكبر، ويظهر فى كلامه الأدب الصوفى الغائب عن الكثيرين من دعاة هذا العصر، وهذا يشير إلى أنه سيصبح نجم الساحة الدينية خلال الفترة القادمة».
وأضاف «مسلم» أن نشأة «بغدادى» الصوفية جعلته قريبًا من الشارع المصرى بجميع أطيافه، وعلى الرغم من إجادته ٣ لغات، إلا أنه يستخدم العامية المصرية فى التواصل مع الناس، ويربط بين التصوف والواقع بفكر مستنير.
من جهته، قال خالد الشناوى، الباحث فى الفكر الصوفى، إن الشهرة التى حققها الشيخ جابر بغدادى تعد ظاهرة صحية، لأن الرجل أخذ بيد الشباب إلى التصوف الصحيح، بعد سنوات من انتشار الفكر السلفى وسيطرته على عقول الشباب، فى ظل غياب الأزهر الشريف وعلمائه.
وأضاف «الشناوى» أن جابر بغدادى رجل «منفوح» أكرمه الله بمحبة الناس، مؤكدًا أن الطرق الصوفية كان لها الفضل الأكبر فى نشر الإسلام قديمًا.
وتابع: «كان لا بد من ظهور دعاة مثل جابر بغدادى ليعرف الناس حقيقة الدين، إذ يكشف لهم (بغدادى) سوءة التشدد والجماعات المتطرفة مثل الإخوان والسلفيين»، لافتًا إلى أن هناك شيوخًا متصوفين كثرًا ظهروا خلال الفترة الماضية، أمثال الدكتور عمرو الوردانى والدكتور محمد وسام والدكتور يسرى جبر، لكنهم لم ينجحوا مثل الداعية جابر بغدادى.
وقال: «(بغدادى) لم يبدأ طريقه من قنوات تليفزيونية، ولم يطلب الشهرة، بل صنعها له محبوه على مواقع التواصل الاجتماعى، ولم يقتصر الأمر على الشباب، فكبار السن أيضًا أحاطوا الرجل بمحبة كبيرة، لأنه أبعد الشباب عن التشدد».
فى السياق ذاته، قال مصطفى زهران، باحث فى التيارات الإسلامية، إن هناك سببين رئيسيين جعلا «بغدادى» يصل إلى هذه الشهرة الكبيرة، أولهما مكانته الدينية التى تتمثل فى كونه نائبًا لطريقة صوفية، والثانى هو أداؤه الذى يجمع بين القوة فى التعبير عما يطرحه من أفكار واللغة القريبة من البسطاء.
وأضاف «زهران»، لـ«الدستور»: «(بغدادى) يحكى قصص الصالحين بشكل جميل، فضلًا عن أنه يحب الإنشاد، ويلقى الشعر»، وتابع: «يلبس الرجل ثيابًا بسيطة، تُشعر من يراه بأنه يجلس من قريب أو صديق».
ولفت إلى أن الشباب لقبوه على السوشيال ميديا بـ«قاهر الإخوان والسلفيين»، وحققت الفيديوهات التى يظهر خلالها ملايين المشاهدات، وانتشرت على «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستجرام»، وانتشرت حكايات على لسان الشباب توضح كيف ساعدهم الشيخ على ترك التشدد وفهم صحيح الدين.
وأشار إلى أن الشعب المصرى يحب التصوف ويرى أنه الفهم الصحيح للدين، ويحب المديح ويحب الحديث عن رحمة الله، وعن التسامح وقبول الآخر، وأوضح: «الشيخ يوضح أن القلب هو بداية الطريق إلى الله، نرحم ليرحمنا الله، ونسامح ليسامحنا الله».
تجدر الإشارة إلى أن العبارة التى قالها «بغدادى» أصبحت متداولة بشكل واسع، وهى عبارة: «عايزين تَخَلّى.. تَحَلّى.. تَجلّى»، ويستدل بها الشباب على أن الطريق إلى الله يبدأ بالتخلى عن القلق من أى شىء لأن كل شىء يحدث بمشيئة الله، وأن على الساعى إلى الله أن يتحلى بالأدب والصدق ليصل إلى المرحلة الأخيرة، وهى التجلّى، والوصول إلى درجة استشعار حضور الله معنا فى كل حين.
وكانت من بين العبارات التى وصف بها الشباب الشيخ «بغدادى» قبل أن يعرفوا اسمه: «الشيخ ده جميل.. كلامه بيوصل للقلب»، و«الراجل ده صادق ومش بزهق وأنا بشوفه»، و«هو ده الدين مش اللى بيقولوه السلفيين والإخوان».
رجال الصوفية فى مصر يتوقعون لـ«بغدادى» مستقبلًا كبيرًا، وترتفع أسهم الرجل بين الشباب على مواقع التواصل الاجتماعى، ويشبهه البعض بالشيخ الراحل محمد متولى الشعراوى، والسؤال الآن: هل سيستمر صعود «بغدادى»؟