زيزيت سالم تكتب: بساتين البصرة في حُلم منصورة عز الدين
في "بساتين البصرة"، يَشِفّ الزمان وتضيق المسافات بين أبطال عالقين في لعبة مرايا يتبادلون الأدوار مع مقولة الرواية: "الزمن نهرٌ سَيَّال والمكان وَهْم. مكاننا الحقيقي موطن أرواحنا" .
تبني منصورة عز الدين روايتها بساتين البصرة على حُلم مأخوذ من الكتاب المنسوب لابن سيرين "تفسير الأحلام الكبير"، بزوال علماء البصرة .
فتبدأ الحكاية بهشام خطاب ابن المنيا الذي تخرج في كلية العلوم، والذي يصطدم بجدار الواقع سريعاً، ليعمل في مجال بيع الكتب القديمة والنسخ النادرة، ويحلم بأنه يعيش في زمن آخر باسم آخر هو "يزيد ابن أبيه"، حيث تدور الرواية في زمنين، زمن الحسن البصرى وواصل بن عطاء، وزمن الثورة المصرية فى يناير 2011 وما قبلها وما بعده .
تجسد الرواية أزمة "هشام خطاب" ومعاناته، بإنكاره لواقعه، وبحثه عن زمن يكون فيه أكثر فاعلية، لذا يسعى لاستحضار زمن سابق، مدعيًا أنه "يزيد بن أبيه" الذي يتتبع حلمه القديم عن ياسمين تجمعه الملائكة من بساتين البصرة والذي فسره شيخه الحسن البصري بذهاب علماء المدينة، "يزيد" الذى تعرض للخيانة على يد أقرب أصدقائه إلى نفسه "مالك بن عدى النساخ " مفسر أحلامه، وتعرض للغدر أيضا على يد زوجته "مجيبة" التي كانت شريكة في القتل .
لكننا سندرك بعد قليل أن "ليلى" هي الجذر الحقيقي للأزمة التي يمر بها البطل، ليس فقط بإساءة معاملته والحط من قيمته وزرع الإحساس بالذنب في أعماق وعيه، بل أيضا بالتماس الواضح بين قصة حياتها وقصته المتخيلة عن حياته القديمة كيزيد ابن أبيه.
ولا يتوقف أثر الأم عند هذا؛ بل يظهر بشكل أكثر تشعبا في غرس التفكير الخرافي في عقل صغيرها، ليصبح في النهاية ابن لأم عالقة في مرحلة بائدة من عمرها تغص بالعفاريت المتربصين بالطرق، وجثث الموتى الطافية فوق الماء، والكثير من التفاصيل الغرائبية، بالاضافة إلى أب مهووس بالحكي الشعبي إلى حد التيه إثر الحكائين أينما وجدوا تاركا وراءه صغيره، مخلفا فيه بذرة جنونه .
لذا لن نجد فارقًا كبيرًا بين الأب "الغريب" وبين الأستاذ "الزنديق" الذى كان يسرق أفكار "هشام" ومجهوده، وربما لهذا انتقم "هشام" من أستاذه، بحرقه هو وأسرته وفى داخله كان ينتقم من الأب، كما سنجد أنه تعامل برد فعل عنيف تجاه "ميرفت" وتجاه أمه المهزومة بالمرض والشيخوخة ودفعها صوب الماء لتموت غرقًا فى النيل .
لا تستسلم "بساتين البصرة" للسرد الأفقي التقليدي، الذي تتتابع فيه الأحداث والصور، وفق ترتيب زمني أو مكاني، بل أن الرواية تنتمي لتقنية الروايات متعددة الأصوات، ولكل شخصية أسلوبها اللغوي الخاص بها حيث تقدم مع كل صوت جديد في الرواية تفاصيل جديدة للحدث ذاته، من سماء تركوازية كما يليق بحجر كريم إلى شذرات من حياة يزيد، ومن أيام تنفرط كحبات العقد إلى لوحة شاجال، ومن بيت على أطراف البصرة تتكشف الحقيقة خلف ضباب الجسد .
فنرى على مدار ستة تقسيمات أن "منصورة" تمسك أبطالها من ذنوبهم، فالأحداث تدور بحيث نكتشف أن "يزيد" الذي كان ضحية لجريمة قتل، بدأ حياته قاتلاً حين قتل الرجل المسن دون مبرر فهو لم يكن قط طالب مال أو راكضا خلفه بل كان راغبا في العلم، والمفارقة أنه دُفن حيث دفن هو صندوق الدراهم والمصوغات الذهبية مفتاح جريمته الأولى .
وينتهي بنا التساؤل هل هذا الصراع الغرائبي نشأ نتيجة حلول روح قديمة في جسد هشام المعاصر؟ أم نتيجة شطط ما في عقل هشام وتقمصه لتلك الشخصية القديمة؟
فعلى الرغم من إصرار الكاتبة على تجنب المباشرة بقدر المستطاع، من خلال عدم استخدام مصطلحات طبية أو حتى تسمية المكان الذي آل إليه مصير البطل، وعدم التعريف بشخصية المرأة المرافقة له،هل هي بيلا أم الممرضة؟ فإنه يصبح علينا توقع مكان تواجد هشام، هل هو في فيلا المريوطية أم في مستشفى للأمراض العصبية، حيث الصراخ الهستيري في الغرف المجاورة والمرأة التي تجلب له الطعام وتحقنه بالمهدئات، وتعتبر الناس مجرد حالات؟
لكن من المؤكد أن شخصية البطل قد تفككت وفقد إحساسه بالواقع بالتدريج وصولا إلى الانفصال التام الذي عبرت عنه الفقرة النهائية للرواية:
"يتكاثف الظلام أكثر ويصير حاجزا قاتما يفصلني عن كل ما عداي. يتراخى جسدي، لا، بل يتراخى العالم كله، فلا يعود منتبها إلي ولا أنتبه إليه بدوري، وأشعر كأنني في حفرة، مغطى بطبقات من التراب وسط ظلمة حالكة يتخللها الشذى المؤرق للياسمين" .
وقد صرحت منصورة عز الدين أن البناء النهائي لرواية «بساتين البصرة»، اختلف تمامًا عن النسخة الأولى لها، وأنها حذفت ما يقارب من 12000 كلمة، كانت تمثل محور كامل خاص بإحدى شخصيات الرواية، لكنها قررت حذفها لتكون الرواية أكثر رشاقة، وأنها كتبت بساتين البصرة في خريف 2018 حينما سافرت إلى شنغهاي في الصين لإقامة أدبية كاملة، فأتيحت لها الفرصة لإنجاز كتابة الرواية.
و"بساتين البصرة" هى الكتاب الثامن لمنصورة عزالدين، سبقها 4 روايات، و3 مجموعات قصصية. وصلت روايتها "وراء الفردوس" إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية، كما فازت روايتها "جبل الزمرد" بأفضل رواية عربية من معرض الشارقة للكتاب 2014، ووصلت مجموعتها القصصية "مأوى الغياب" إلى القائمة القصيرة لجائزة الملتقى للقصة العربية عام 2018، والقائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد .