غدًا.. كريم الصياد يناقش حياة «النفرى» بالنيل الثقافية
يستضيف الإعلامي خالد منصور، الدكتور د. كريم الصياد، أستاذ مساعد الفلسفة، كلية الآداب، جامعة القاهرة، حول محمد بن عبدالجبار بن الحسن النفري من أعلام التصوف الإسلامي، وذلك في حلقة جديدة من برنامج «مدد»، وهو برنامج رمضاني يتناول كبار المتصوفة وأهم الكتب التراثية، ويذاع في تمام الواحدة ظهر اليوم الأربعاء على شاشة النيل الثقافية.
ازدهرت مؤخرًا الكتابات الصوفية باللغة العربية، وأصدرت العديد من الكتب التي تتناول الصوفية الكبار بالشرح والدراسة، ولكن لم يلتفت الكثير منها لواحدة من تهم الشخصيات في تاريخ التصوف الإسلامي، وهو محمد بن عبدالجبار النفري صاحب المواقف والمخاطبات، وتأتي أهمية النفري من كونه يمثل مدرسة مستقلة في التصوف الإسلامي بجانب أسلوبه المتميز في الكتابة المكثف.
والنفرى، صاحب المواقف الحقيقى هو أبوعبـد الله محمـد بـن عبـد الله، توفى عام 354هـ. ويلقب بالسكندرى والمصرى؛ "لأنه عاش فى مصر وربما توفى بها، ولكن اللقب الغالب عليه هو "النفرى" نسبة إلى نفر – بكسر أوله وتشديد ثانيه وراء - بلد من نواحي بابل بأرض الكوفة. أمـا محمـد بـن عبد الجبار النفرى، فهو حفيد صوفينـا، وإليه ينسب كتـاب "المواقف" علـى أساس أنه هو الذى قام بترتيب أوراق جده الشيخ والتأليف بينها - أثناء حياته وبعد وفاته - دون "الاهتمام بالترتيب الزمنى لتأليفها.
ولم يتحدث شيخنا النفرى فـى مصنفاته عن شـىء مــن حياته، أو الأطـوار التى مر بهـا أو شيوخه أو تلامذته - كمـا فعل معظـم متصوفـة الإسلام- وكـان كثير الترحال والأسفار، وقد أظهرنا فى مصنفاته علـى مذهب صوفى جديد إلى حد كبير، وهو مذهب يقوم على ما يسمى "بالوقفـة"، وتعنى عنده أن ينفصل الصوفى تماما عن السوى، ويفنى عن الكونية، وفى هذا الفناء لا يشهد الصوفى إلا الأحدية.
فمذهب النفرى الصوفى مذهب فى شهود الوحدة فى الوجود فى حـال من الذوق فحسب، إذ يفنى الصوفى عن نفسه، وعن الأكوان، فلا يعود يرى موجودًا سوى الله فى الوجود، ولكن هذا الصوفى لا ينطلق فى نفيه للأكــوان فيقرر أنها معدومة بإطلاق. أو أن الأكـوان يندمج وجودها فـى وجود الله بحيث تصبح الإشارة إلـى الأكـوان هى عين الإشـارة إلـى اللـه، وإنما يرد الصوفى من حال الفناء عن نفسه، وعن العـالم، إلـى حال البقاء، وبتعبير اصطلاحى آخر: يرد من حال الجمع إلى حال الفرق؛ فيشاهد الأكوان قائمـة بمكونها تعالى.
وأسلوب النفرى فى مصنفاته شديد الرمزيــة، يخرج بنـا عن اللسان المعتاد، وعن المنطــق المألوف، ويقف علـى هوة هى حسب قول النفرى "برزخ فيه قبر العقل وفيه قبور الأشياء"، فالطريق بلا دليل؛ لأن عالم النفرى عالم الغربة، مجهول لدى كل دليل، فمن ذا الذى يجــرؤ علـى أن يمسك بيد غيره ليقوده ويكشف له عن خفاياه؟! الطريق يمر وسط غابات من الرمــوز، وهذه الغابات ليست على وجه الأرض لنشق فيهـا سبلنا، إنها تحـت الأرض فى أعماق كل واحد منا، كما يراها النفرى فى "موقف التيه": "أوقفنى فى التيه، المحاج كلها تحت الأرض، وقال لى : ليس فوق الأرض محجة، ورأيت الناس كلهم فوق الأرض، والمحجات كلها فارغة".
لو حاول فنان أن يجسم بالألوان رؤيـة النفرى لكانت النتيجة لوحـة سريالية فيها من الغرابة ما يدنيها من الجنون، ولا سيما أن للرؤية شطرًا ثانيًا ينقسم فيه الناس قسمين: قسم ينظر فى الهواء، وقسم يقلب نظره فى داخله: "ورأيت من ينظر إلى السماء لا يبرح من فوق الأرض- ومـن ينظر إلـى الأرض ينزل إلـى المحجة ويمشى فيها".
البصر ينفذ إلى عوالم فيرى فيها روابط يحاول اللسان أن ينطق بهـا فتتفجـر اللغة، وتتفتت الكلمات فى وحدات لا ينكشف الرباط بينها إلا لمــن يعرف أن يحل اللغز، أو يرجع إلى زمن ما قبل انفجار اللغـم الذى فجـر العوالم تحت الأرض، وكشف ما تشير إليه الكلمات دون أن تبلغ إلى تسميته.
فمع النفرى يتخذ فعل الكتابة بعدا ما ورائيا للكلمة، وتتحول اللغة على يديه إلى هوة مليئة بالغرابة والعجب والهدم. بالمعنى المبدع الرائي الواقف بين تراب التجربة الجوانية وسماء التطلع الفريد.
لقد تحول فعل الكتابة معه إلى "كتابة - قصيدة" جديدة تؤسس بقدر مــا تمحو، وترمز بقدر ما تكشف اللغة. كان همه الأكبر أن يربح الدهشة الكبرى، وها هو الآن - بعد طمس طويل - يستيقظ من رماد تجربته ليبعث فينـا ريح الدهشة ويسعدنا بقصائده. صفى النفرى حروفه وكلماته وقصائده، فما سفسـط ولا بكى، لكنه "حدس" قبل ألف سنة وقليل، بما سيأتى.
وأهمية هذا الشــرح- إضافة إلـى فهـم عبارة النفرى- تتمثل فى الكشف عـن مذهب التلمسانى الصوفى ويعد (التلمسانى) حلقة هامـة فـى تطور الفكـر الصوفى الذى ازدهر فى القرنين السادس والسابع الهجريين. بظهور ابـن عربــى ومدرسته، وفهم التلمسـانى يلقى ضوءًا جديدًا على مدرسة ابــن عربى.
ورغم أهمية الرجل. وأهمية آرائه فى التراث الصوفى الفلسفى، فإنـه لم يحظ بدراسة مستقلة تكشف عن حياته ونشأته ومذهبـه الصوفى الفلسفى الذى يتسم إلى حد كبير بالأصالة والابتكار.
والتلمسانى هو أبوالربيع عفيف الدين، سليمان، بـن علـى، بن عبـدالله بن على، بن يس. العابدى، الكومى التلمسانى، وهو معروف عند القدماء بـ"العفيف التلمسانى".
وحياة عفيف الدين فى مسقط رأسه بتلمسان. وفى رحاب خانقـاه "سعيد السعداء" بالقاهرة، وفى خلواته المعروفة ببلاد الروم بشكل خاص لا تخرج إطلاقًا عن نطاق التصوف والتجرد. أما المرحلة الختاميـة مـن حياته، فتختلف كل الاختلاف عن المراحل الثلاث السـابقات، فنراه لأول مـرة ينعم بلذات العيش وجمال الحياة فى منزله الذى أقامه فى ظاهر دمشق فـى سفوح قاسيون، وما زال مكان قصره معروفًا عند أهل دمشق بـ "العفيـف" وهـو حى من أحيائها العامرة والآهلة الآن بالسكان.
جدير بالذكر أنه صدر حديثًا عن مركز المحروسة للنشر، كتابا "النصوص الكاملة للنفري"، و"شرح مواقف النفري"، لعفيف الدين التلمساني، ودراسة وتحقيق وتعليق الدكتور جمال المرزوقي.