أحمد أمين: هكذا سبق عروة بن الورد «تولستوي» في النبل بألفي سنة
في كتاب "الصعلكة والفتوة في الإسلام" يشير المفكر أحمد أمين إلى أن لكل كلمة تاريخ يشبه تاريخ البلاد وتاريخ النظم السياسية٬ وتاريخ الأشخاص وتاريخ الكلمات، قد يكون معقدا وملتويا وغامضا، ومن هذه الكلمات لفظة أو مفردة "فتوة"، والتي تختلف دلالاتها ومعانيها من مجتمع إلى آخر ومن بيئة إلى أخرى، فقد تعني الشباب والقوة، وفي الأوساط العربية القديمة كانت تستخدم بمعنى الكرم والحرية.
ولفت أحمد أمين إلى أن أبوالريحان البيروني في كتابه "الجماهر في معرفة الجواهر"، له لفتة لطيفة ودقيقة فقال: “إن هناك فرقا بين الفتوة والمروءة، فالمروءة تقتصر على الرجل في نفسه وذويه وماله، والفتوة تتعداه إلى غيره٬ والمرء لا يملك إلا نفسه، فإذا احتمل مغارم الناس وتحمل المشاق في إراحتهم ولم يضن بما أحل الله له، فهو الفتي الذي اشتهر بالقدرة عليها، ولذلك عرف الفتوة بأنها بشر مقبول وعفاف معروف وأذى مكفوف”، فالبيروني كالذي قبله لا يهتم بغنى أو فقر، في تعريف الفتى، وإنما يجعل عنصره شيئا واحدا وهو الإيثار، وعلى هذا المعني يكون الفتى والصعلوك من النوع الجيد مترادفين.
ويشدد أحمد أمين علي أن الصعلكة كما وردت في كتب اللغة تساوي بين الفقر والصعاليك، وهم شبان فقراء أمثال “عروة بن الورد، تأبط شرا، السليك بن السلكة، الشنفري”، يسمون أيضا ذؤبان العرب، جمع ذئب لأنهم يخطفون المال كما تخطفه الذئاب، ويسمون أيضا العدائين لأنهم كانوا مشهورين بسرعة العدو في السلب والنهب، ولكن كانوا مع فقرهم نبلاء، ومن نبلهم كانوا لا يهجمون إلا على الأشحاء البخلاء من الأغنياء، فإذا وجدوا غنيا كريما تركوه، وإن وجدوا غنيا شحيحا هاجموه، فهم لصوص شرفاء ونبلاء، فكانوا بذلك خيرا من الأغنياء الأشحاء، ولذلك روي عن معاوية بن أبي سفيان أنه تمنى أن يصاهر "عروة"، وعبد الملك ابن مروان تمنى أن يلده "عروة" وهما ما هما، وقد كان "عروة" هذا صعلوكا، ولذلك يسمي "عروة الصعاليك"، فالظاهر أن كلمة الصعلوك لم تكن تدل على معني سيئ كالذي كان فيما بعد.
ومن المفارقات التي يذكرها أحمد أمين في كتابه "الصعلكة والفتوة في الإسلام"، كم من كلمات تنقل من العز إلى الذل، ككلمة "حرامي"، فقد كانت في الأصل تدل على النسبة إلى حرام وهي قبيلة تناهض قبيلة سعد، وكان الناس ينقسمون إلى قسمين سعدي وحرامي، فلما ذل أصحاب حرام ذلت الكلمة وأصبحت تطلق على اللص، وكذلك لفظ "عتقي"، فإنها كانت في الأصل تدل على نسب إلى قبيلة تسمي "العتقاء"، ثم ذلت القبيلة فذلت الكلمة وأصبحت تدل على مصلح النعال القديمة.
يؤكد أحمد أمين في كتابه "الصعلكة والفتوة في الإسلام"، أن هناك شيء آخر نبيل كان يفعله هؤلاء الصعاليك، ألا وهو تكوينهم جمعية من فقراء قومهم يصرفون منها ما كسبوه من الأغنياء الأشحاء عليهم بالتساوي، حتي ليحكون أن رئيسهم عروة بن الورد أغار يوما ونال خيرا كثيرا وسبي رجاله امرأة فأراد عروة أن يختص بها ويخصموا منه ثمنها فأبوا عليه ذلك تطبيقا للإشتراكية المطلقة، وقالوا نقومها بإبل فتكون سهما فمن شاء أخذه ومن شاء تركه، ولعروة هذا ديوان مطبوع يدل على نبله وفضله وأوصافه، فهو فقير يتحسس أخبار الأغنياء فمن وجده كريما سخيا تركه ومن وجده شحيحا بخيلا غزاه، وفرق ما جمعه على زملائه بالعدالة لا يرضي بشيء لنفسه إلا برضاهم، فمثله مثل "برنارد شو" في إحدى رواياته إذ هاجم قوم سيارة فخمة يركبها أغنياء مرابون، فقال لهم الهاجمون نحن سراق الأغنياء وأنتم سراق الفقراء، وكما فعل تولستوي إذ كان غنيا واسع الغني فوزع ثروته على فلاحيه وعاش فقيرا، غاية الأمر أن "عروة" هذا سبقهما في النبل بنحو ألفي سنة.
ويخلص أحمد أمين في كتابه "الصعلكة والفتوة في الإسلام": "نري في الحياة الجاهلية البدوية نوعين متميزين من الشبان (أبناء الذوات) قد يجتمعون ويتخذون لهم محلا مختارا، ويعيشون عيشة إباحية، فيها خمر وفيها غناء وفيها نساء، وهم مع ذلك كرام يضيفون من نزل بهم ويغدقون عليهم من خيرهم، وتقابلهم طائفة أخري من أبناء الفقراء يسمون الصعاليك يشاركونهم في الكرم والاشتراكية ويخالفونهم في أن حياتهم ليست حياة دعة واستمتاع ولكن حياة غزو وسلب ونهب، وتوزيع عادل على أمثالهم، يضاف إلى ذلك فرق آخر وهو أن الفتيان يعطون ما يعطون وهم مترفعون، والصعاليك يعطون ما يعطون وهم يعتقدون أنهم مع زملائهم الفقراء متساوين، وإن شئت فقل إن الفتيان يعطون ما يعطون عطفا وتفضلا، والصعاليك يعطون ما يعطون أداء لما يرونه واجبا".