صانعا البهجة.. عرائس محمود رحمى وحذاء صلاح جاهين!
لكل فرد منا مكان يفضله يسميه أصدقاءه بالصومعة، فإذا ما نظرنا لصومعة المخرج المصري مصمم الدمى "محمود رحمي" صاحب فكرة مسلسل بوجي وطمطم الذي كان يتم عرضه على التلفزيون المصري على مدار سنوات، سنجد أربعة صور شخصية معلقة فيها، صورة لوالده وأخرى لبطل مصري يحبه واثنتان لصلاح جاهين، ربما تعطينا الصور فكرة عن مكانة جاهين وأثره في حياة رحمي.
بدأت معرفة رحمي بصلاح في يناير عام 1956 على صفحات مجلة صباح الخير، التقى به ضمن ما التقى من فنانين، ولم يندهش رحمي من أن رساما بارعا مثل جاهين لا يرسم رباعياته ويتركها لأدم حنين، أما المرة الأولى التي رأى فيها رحمي صلاح فكانت على حد تعبيره من أغرب اللقاءات، يسرد رحمي في مقال له بالعربي بتاريخ 11 مارس 2001 تفاصيل ذلك اللقاء فيقول: "المكان قاعة الاحتفالات الكبرى بجامعة القاهرة، انتهت فقرة إحدى الكليات في المسابقة وجاء دور كورال كلية فنون الإسكندرية وبينما نحن نستعد جاءنا أحد الزملاء لاهثا، صلاح جاهين في الصالة، تزاحمنا خلف الستار ومن فرجة بين الستارتين حاولنا أن نراه وسط الصالة الممتلئة فوقا وتحتا، كان طبيعيا أن تتوجه كل الأنظار إلينا ونحن نغني لكن كل منا كان لا ينظر إلا إليه وهو جالس فى الثلث الأول من الصالة على شمالنا، ولاحظت تمايله مع الألحان فى نشوى وسلطنة وكأنه هو هذه المرة يأخذ حقه في الزاد الذي طالما آمدنا به، ولم يكن فوزنا بالمركز الأول مفرحا لنا مقدار فرحتنا بوجوده معنا".
كانت هذه هي المرة الأولى التى رأى فيها رحمى صلاح جاهين لكنهما لم يتحدثا بكلمة، لم يقل رحمى لصلاح كيف أثر فيه، وظل الحديث مؤجلا حتى دخل رحمي كلية فنون القاهرة وتعرف هناك على ناجى كامل الذي كان رساما بروزاليوسف وطلب منه التعرف بصلاح جاهين، أخذه ناجي إلى مكتب جاهين، وتم التعارف الرسمي الأول بينهما بمفاجئة صلاح: "أنا عارفك.. مش أنت مطرب؟"، ضحك ناجي وقال: "ده مثال ومالوش دعوة بالغناء"، فرد رحمي: "يمكن كورال الكلية في أسبوع شباب الجامعات؟"، فقال صلاح: "عليك نور.. أقعد بقى أنا عاوز أعرف بالضبط إيه حكاية الكورال بتاعكوا ده"، تركهم ناجي ليعاود عمله ولتبدأ علاقة أبوة جاهين برحمي منذ اللقاء الأول.
في نهاية عام 1961 كان رحمي يسعتد لعمل معرض شامل لأعماله في النحت والتصوير، وحجز قاعة العرض في متحف الفن الحديث، ثم أعد كتالوجا بسيطا للمعرض ولم يكن يعرف كيف وأين يطبعه، فلم يجد أفضل من صلاح جاهين ليسأله، يحكي رحمي تفاصيل ذلك اللقاء في مقاله: "في مكتبه بروزاليوسف تأمل تصميم الكتالوج واستعرض قائمة المعروضات وتوقف فجأة وسألني اشمعنى يعني دفن الأمل؟ فأجبته بأن هذا اسم اللوحة، قال لي: عارف.. بس ما تشوف اسم تاني، وأخذني حماس الشباب فقلت له: لا.. هو ده الإسم المناسب، علشان إحنا كأننا بندفن المستقبل بإهمالنا للأطفال، قال لي معك حق وأردت أن أطمئنه أنني أقصد ما أقول ورجوته أن يقول لي رباعية العندليب".
غير رحمي الموضوع وأدخل السبب الذي جاء إليه وهو طباعة الكتالوج، فوصف له جاهين مطبعة بجوار أخبار اليوم يعرف صاحبها، ونصحه بالذهاب أولا لشارع محمد على كي يقوم بعمل "زنكوغراف" للرسوم، وبتلقائية سأله رحمي عن الأسعار التقريبية، ظل جاهين يحسب وقال له من جنية ونص لاتنين جنية، وقبل أن يخرج رحمي قال له جاهين: استنى، وفتح درج مكتبه وأخرج ثلاث جنيهات، أبى رحمي أخذها في البداية لكن جاهين أصر وقال له: "شوف يا سيدي أول ديوان عملته أعتقد في بور سعيد، واحد صاحبي أداني دول علشان أكمل طبع الديوان ودلوقت أنا باديهملك عشان تبقى مديون طول عمرك لأي حد من صحابك وحاتدفعهم يا حلو مرة واتنين وعشرة"، كان هذا الدرس هو الأهم في حياة رحمي الذي ظل مدينا لصلاح جاهين حتى رحل.
عندما كان الفنان إسماعيل ياسين يستعد لعمل مسرحية يقوم فيها بدور هتلر، طلب من رحمي عمل حذاء بوت كامل يناسب طريقة ياسين في السخرية، وكان إسماعيل مصابا بمرض النقرس في قدميه ولابد من ابتكار حذاء خفيف جدا ومريح ومظهره قوي ليناسب لبس النازي الذي صممه صلاح جاهين.
احتار رحمي في صنع ذلك الحذاء وظل هو وصلاح يعملان في جلسات متتالية اهتم فيها جاهين بكل تفصيلة وأخيرا تم عمل البوت ليلحق موعد البروفات، أخذ صلاح يرتدي هذا البوت ويقوم بالتحرك في الغرفة بطرق مختلفة، أغلبها -على حد تعبير رحمي- قفزات كوميدية متقمصة شخصية هتلر، إطمئن صلاح لنجاح التجربة وبفرح طفولي زف الخبر للمسئول عن المسرحية التي لا يدري رحمي ما صارت إليه ولا يدري حتى مصير البوت الذي صنعه، لكن ما كان يهمه هو تحقيق مطلب صلاح جاهين، وتعلم رحمي من جاهين درسا أخر، وهو حرص صلاح على راحة فنان كبير بحجم إسماعيل ياسين للدرجة التي جعلته يضع نفسه في مكانه وكأنه هو من يعاني النقرس.
أما اللقاء الأخير بين رحمي وجاهين فكان قبل رحيل الأخير بيوم واحد فقط، ذهب له رحمي بعقد جديد لأغاني بوجي وطمطم حتى يبشره بارتفاع أجره وأحضر له مستحقاته من كتابة أوبريت اللعبة، لاحظ رحمي أن جاهين فاقدا للحماس تماما، يدخن الكثير من السجائر، ولأول وأخر مرة في حياته ناداه رحمي بإسمه فقد كان دائما يناديه بالأستاذ وقال: إيه يا عم صلاح مالك؟ بل شجع رحمي نفسه أكثر وقال: ولا يهمك يا أبو الصلح، كل حاجة حتبقى تمام إن شاء الله، لم يتمتم صلاح ولو بكلمة واحدة ولكي يفرحه رحمي قال: أما العروستين اللى حيبقوا مع نيللى طلعوا حلوين بشكل، كان رحمي يعرف أن صلاح يفكر في التقدم بطلب الإحالة على المعاش من الأهرام ليتفرغ لعمل العرائس بنفسه، لكن للمرة الأولى لم يطلب جاهين مشاهدة العرائس رغم إغراءات رحمي، كادت كل محاولات الأخير تبوء بالفشل حتى قال له صلاح: يعني أنت لازم تعمل بوجي وطمطم في رمضان، فرح رحمي ورد: طبعا ده الأطفال بيستنوها من السنة للسنة في ميعادها، فعلق صلاح: ما هو رمضان شهر زي أي شهر في السنة مستعجل ليه؟، رحمي يرد: يا أبو الصلح دا شهر كريم وأكتر حاجة بتفرح الناس في برامج التليفزيون، أطفأ جاهين سيجارته واتصل بهاني شنودة وترد سماعة التليفون لرحمي الذي تخوف من ترك الحديث مع صلاح حتى لا يعود لحالته الأولى وهو ما حدث حيث أشعل جاهين سيجارة أخرى وأخذه الشرود، أشعل رحمي سيجارة أيضا فنظر له جاهين نظرة باهتة فأنهى رحمي سيجارته في صمت ورحل.
في اليوم التالي أصيب جاهين بالهبوط ونقل على إثره للمستشفي وعرف رحمي ذلك من زوجة إبراهيم رجب، فذهب فورا إلى المستشفى التي لم يغادرها لمدة ثلاثة أيام سوى للذهاب إلى المنزل لتغيير ملابسه والاستحمام، إلا أن غادرها معا جاهين ورحمي، جاهين إلى مثواه الأخير حيث خرجت جنازته من شارع عمر مكرم ورحمي إلى صومعته التي خففت عنه بصورتي صلاح وبالحديث إلى ابنه بهاء جاهين.