الشاعر العماني سيف الرحبي يروي ذكرياته مع غالب هلسا في القاهرة
الأجواء الرمضانية في مصر ذات طابع خاص٬ يتميز بالدفء والحيوية عن غيره في أي مكان آخر٬ فمصر التي احتضنت عبر تاريخها الطويل الموغل في الزمن٬ آلاف البشر من غير المصريين٬ لم تميز إنسان عن آخر٬ لم تفرق بسبب الجنس أو الدين أو اللون. والقاهرة التي عاش فيها العديد من الكتاب والأدباء العرب وسجلوا مشاهداتهم وانطباعاتهم عن القاهرة ومصر في عمومها٬ وكيف تستقبل مصر الشهر الكريم وأجواءه الروحانية٬ ومن بينهم الشاعر العماني سيف الرحبي.
وفي كتابه "القاهرة أو زمن البدايات"٬ والصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة٬ يشير مؤلفه سيف الرحبي عن الصداقة التي جمعته بالروائي الأردني غالب هلسا والذي كان يقيم في القاهرة. يقول الرحبي: في هذه اللحظة من نهار رمضاني يوشك علي نهايته. أكتوبر والطقس مازال لم يجنح إلي البرودة بعد. خريف غامض٬ أوراق شجره الأصفر يتساقط في الروح والمخيلة. في هذه اللحظة تنزل علي ذكري الراحل الكبير غالب هلسا٬ هكذا وأنا أجلس علي منضدة القراءة والكتابة مثل معظم الصباحات. يحط علي اسمه الذي يستدعي علي الفور ملامح شكله ومنجزه الإبداعي بدوائر متاهاته وشخوصه٬ بالرغبات والأحلام المداسة بغلظة قل مثيلها.
ويستطرد سيف الرحبي: بملامحه الطرية اللامعة التي لا يكاد ينعكس علي صفحتها كل ذلك الشقاء والمعاناة الحياتية والإبداعية التي وسمت حياة الراحل وطبعت كينونته بالكامل منذ سني حياته الأولي٬ منفصلا عن مرابع الولادة والعائلة٬ متبنيا أصعب الخيارات الفكرية في التصدي للظلم والتخلف بكافة أشكاله وبنيانه٬ ماضيا في دروب الإبداع الموحشة٬ حتي لحظته الأخيرة التي قذفتها المشيئة هذه المرة إلي دمشق.
منذ هجرته المبكرة الأولي صار الراحل الكبير لا تحده حدود الجغرافيا والأقاليم العربية واللغات سكناه الأساس٬ مضارب عشيرته المبعثرة في أصقاع الأرض والتاريخ. في أعماله الروائية خاصة ومنذ "الخماسين" و"الضحك" حتي "الروائيون" روايته الأخيرة يبني غالب هلسا ويتابع مسيرة روائية غابية (من الغابة) شديدة الغني والأصالة بالمعني المفارق. تشكل ملحمة الزمن العربي الراهن بتخلفه وحداثته المكسورة٬ بأفراده وجماعاته٬ بمدنه وصحرائه الموصدة الأبواب.
يلتحم الشخصي الحلمي٬ الهلوسي٬ بالتاريخ الواقعي والواقع الموضوعي٬ علي نحو معماري بلحمته المحكمة٬ بخبره جمالية وحياتية ومعرفية٬ لروائي كبير لم ينل بعض ما يستحقه. وهو أمر ليس مستغربا في دنيا العرب المبنية أركانها غلي النفاق والشللية وسحق الاختلاف.
ويختتم سيف الرحبي: في هذا الصباح الاعتيادي٬ في المدينة التي أحبها غالب هلسا وكان مسرح عواطفه الواقعية والرمزية٬ في القاهرة هذه المدينة التي أحببناها حتي الوله والتكرار٬ يحضرني غالب هلسا٬ يحط طائر روحه علي شجر الخريف الزاحف.