ألبرت فارمان يروي حكايات رمضان واستطلاع الرؤية وأجواء السحور
لم يقتصر الاهتمام برصد أحوال المجتمعات الشرقية وفي مقدمتها مصر على الرحالة والمستشرقين الأوروبيين وحدهم بل شاركهم المسئولين الدبلوماسيين والسياسيين ذلك الشغف، واعتنوا أشد عناية بتتبع أغلب التقاليد والمعتقدات الشعبية المتوارثة، ومنها مظاهر الاحتفال بشهر رمضان وطقوس الاستعداد لموسم الحج.
من هؤلاء ألبرت فارمان القنصل العام للولايات المتحدة الأمريكية في مصر من 1868_ 1875حيث ينقل لنا في يومياته وتقاريره الدبلوماسية طقوس الاحتفال بالمناسبات الدينية الإسلامية، ومن بينها شهر رمضان. يعرف فارمان شهر رمضان بأنه: الشهر التاسع من شهور السنة العربية ويشتمل علي ثلاثين يوما خصصها المسلمون لفريضة الصيام٬ ولو أن المسلم متراخ في القيام بالفروض الرئيسية الدينية إلا أنه شديد التمسك بالصيام المفروض٬ فلربما ينسي القيام بالخمس صلوات في أوقاتها المعلومة ولكنه لا يمكن بحال من الأحوال أن يفرط في صوم رمضان.
وينقل ألبرت فارمان طقوس رؤية هلال شهر رمضان: ولإثبات أول يوم في رمضان يجب رؤية الهلال عمليا٬ وحقيقة ظهوره يجب أن تقرر بعد المغرب بقليل وهذا الأمر ليس بصعب في جو صاف كجو مصر٬ حيث يخرج الرجال إلي التلال العالية خلف القلعة وبمجرد أن يشاهدوا تمام الهلال من فوق جبل ليبيا يقفلون راجعين. ولا بد من إثبات ذلك كتابة بل لا بد من صدور قرار بشأنه وإعلانه علي أصحاب المقامات العالية الذين يجتمعون بمنزل القاضي. وسرعان ما تطلق المدافع من القلعة وتتحرك المواكب في مختلف أنحاء العاصمة مصحوبة بالموسيقي معلنة بدء صيام رمضان في كل مكان. وفي طليعة فجر اليوم الثاني يعلن المنادي الصيام في كل حي وعند بزوغ الشمس تسمع صوت المؤذنين من المآذن من مختلف أنحاء العاصمة (ها قد بدأ الصيام).
وفي محاولة لتقريب ما يعنيه الصيام للعقل الغربي يقول فارمان: وصيام المسلمين هو في واقع الأمر الامتناع عن الطعام والشراب والتدخين ما بين شروق الشمس وغروبها طوال مدة الصيام٬ ولا يعفي من الصيام إلا المرضي والجنود في ميدان القتال. ويبدو أن طوال المدة التي مكثها فارمان في مصر لاحظ مواكبة شهر رمضان لفصول الصيف أكثر من الشتاء معتبرا أن الصيام في ذلك الطقس تضحية عظيمة خاصة وما يصاحبه من اعتلال في مزاج المصريين أثناء فترة نهار رمضان وما ينعكس علي أعمالهم من فتور وإهمال: وبسبب قصر فصول الشتاء في مصر يأتي شهر رمضان في فصل الحرارة سنين متتابعة، هذا وإن الامتناع عن الطعام والشراب في أيام قد اشتد فيها الحر والجفاف طوال شهر كامل من شهور فصل الصيف ليعتبر تضحية عظيمة. وهذا الامتناع عن الطعام والشراب يؤثر في حالة الأهالي الطبيعية حيث تشاهد عليهم توعك المزاج من جهة العمل وسرعة التأثر والانفعال الذي يسبب المخالفات في بعض الأحيان.
ثم يرصد ألبرت فارمان مظاهر الإفطار والأجواء الاحتفالية التي يختص بها شهر رمضان دونا عن غيره من شهور العام٬ سواء في الفضاء العام والبهجة المصاحبة لليالي رمضان، أو السهر في المقاهي حتي الساعات الأولي من الصباح: "يعوض صيام النهار بإفطار الليل وإنه لمن المؤلم أن يشاهد الإنسان في بعض الأحيان والناس يترقبون غروب الشمس بفروغ الصبر في يوم قد طال أمده واشتدت حرارته، وعندما توشك الساعات المضنية من النهار علي الانتهاء ينتظرون في صمت مطبق دوي المدافع التي تطلق من القلعة معلنة أن الصيام قد انتهي، حينئذ تشعل السجائر ويعد البلح والفاكهة وتكثر الطلبات علي حمالي المياه حيث أن الظمأ هو أول ما يجب إطفاؤه في مثل هذه اللحظة، هنالك يلقي العامل عدته ويقفز سائق العربة من عربيته والجمال من فوق جمله، والكل ينتظر بفروغ صبر جرعة من ماء النيل المقدس. وعندئذ يأتي الإفطار حيث ينغمس كل شخص فيما أعد الله له من نصيب. في رمضان تؤجل الأعمال الشاقة إلا أن المقاهي والمطاعم تصبح في أشد حالات رواجها، وتزدان الطرقات بالأنوار وتصدح الموسيقي العربية والإفرنجية في كل مكان وتتبادل الأحاديث والأغاني حتي الهزيع الأخير من الليل، وقبيل الفجر بساعة تسمع صيحة المآذن مؤذنة بالإعداد للصيام وعندئذ تعد أكلة الصباح المبكر أي السحور وهي الوجبة الهامة في شهر رمضان، تلك التي تتعارض مع موائد الشرق في جعل وجبة الصباح المبكر بسيطة إلي أقصي حد ممكن. وإنها لثلاثون يوما طويلة إلا أن مدفع القلعة يعلن أخيرا انتهاء الصيام٬ وفي صباح اليوم التالي لانتهاء الصيام الموافق أول شوال وهو الشهر العاشر من السنة الهجرية تبدأ أيام العيد الثلاثة ويعرف بالعيد الصغير٬ وهو موسم الزيارات والمقابلات والحفلات وتقديم الهدايا للأطفال والخدم وارتداء الملابس الجديدة.