عرابى وعبدالحميد الثانى
ربما ينظر البعض إلى هذا العنوان على أنه عنوان مثير؛ إذ كيف نضع عرابى فى مقارنة مع عبدالحميد الثانى، فالأول هو مجرد قائد عسكرى فى جيش ولاية- أو خديوية- مصر التابعة للدولة العثمانية وسلطانها هو عبدالحميد الثانى؟!
والحقيقة أن المقارنة أو المواجهة هنا مطلوبة ومهمة، إذ إنها مقارنة بين مفهوم القومية، ويمثله هنا عرابى، والذى يُعد أحد أهم رموز الوطنية المصرية، ومفهوم الأممية الإسلامية، ويمثلها هنا عبدالحميد الثانى بمشروعه الذى أطلق عليه «الجامعة الإسلامية»، أى وحدة العالم الإسلامى، حتى البلاد التى لا تقع تحت السيادة العثمانية.
كان عرابى فى الأساس جنديًا فى الجيش المصرى، هذا الجيش الذى أنشأه محمد على وفقًا للنظم الأوروبية الحديثة، بعد أن طبق قاعدة التجنيد الإجبارى على المصريين. ثم ترقى عرابى بعد ذلك إلى رتب الضباط فى عهدَى سعيد وإسماعيل، وهنا لا بد من ذكر حكاية تاريخية تروى عن محمد على؛ إذ طلب قائد الجيش إبراهيم باشا- وهو فى الوقت نفسه ابن محمد على- من أبيه السماح بترقى الجنود المصريين إلى رتب الضباط، لكن محمد على رفض ذلك وقال لابنه إبراهيم باشا: «إن أول مصرى يُرقى إلى رتب الضباط سيعمل على الانقلاب علينا أو على أسرتنا بعد ذلك»، وكان محمد على يشير فى حقيقة الأمر إلى دور الجندية فى نمو الروح القومية.
وبالفعل ما أن سُمِحَ بترقى المصريين إلى رُتَب الضباط حتى بدأ نمو الوعى القومى لديهم، وإحساسهم بالتناقض بينهم وبين كبار الضباط من الأتراك والشراكسة، وساعدت الدماء التى سالت من الجند المصريين فى المعارك المختلفة على إحساسهم بأنفسهم، وبأن هذه الأرض التى يعيشون عليها هى أرضهم هم لا أرض الأتراك، ومن هنا سيظهر شعار الثورة العرابية «مصر للمصريين». وبدأ الجناح العسكرى متمثلًا فى عرابى ورفاقه من الضباط المصريين فى الالتحام مع الجناح المدنى المصرى، وبدأت وقائع الثورة العرابية المعروفة للجميع، وأصدرت الثورة أول دستور لمصر ينظم طبيعة العلاقات السياسية فى البلاد، بل وارتفعت أصوات تُطالب بعزل الخديو توفيق نفسه، وكانت مصر على موعد مع بزوغ شمس القومية المصرية.
واعتبرت الدول الأوروبية هذا الأمر تهديدًا لمصالحها فى مصر لا سيما قناة السويس، وبدأت الأساطيل الأوروبية فى التحرك نحو الإسكندرية. وهنا طلب عرابى من السلطان عبدالحميد الثانى إرسال تعزيزات من الجيش العثمانى لتساند الجيش المصرى فى الوقوف فى وجه الأسطول الإنجليزى، لكن عبدالحميد الثانى رفض ذلك، إذ كان ينظر إلى ثورة عرابى على أنها ثورة قومية تتعارض مع مفهوم الجامعة الإسلامية الذى يُروج له، وأن انتصار عرابى ربما يثير حماسة القوميات الأخرى فى الولايات العثمانية، ومن ناحية أخرى كان عبدالحميد لا يريد إثارة بريطانيا.
الأكثر من ذلك أن بريطانيا طلبت من عبدالحميد بصفته السلطان العثمانى وخليفة المسلمين، إعلان عصيان عرابى حتى يتم سحب بساط الشرعية منه، ولم يتردد عبدالحميد فى فعل ذلك، متذرعًا بأن عرابى لم يسمع نصيحته بالهدوء وتسليم سلاحه.
وترتبت على ذلك هزيمة عرابى ودخول الإنجليز إلى مصر فى عام ١٨٨٢، واستمرار الاحتلال حتى عقد اتفاقية الجلاء عام ١٩٥٤.
إن قصة عرابى وعبدالحميد الثانى هى قصة الصراع بين القومية والأممية الإسلامية فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر.