الوصاية وخنق الحرية تحت اسم الفتاوى الدينية
واحدة من معارفى أخبرتنى، بأنها قد قررت الذهاب إلى طبيب أسنان، لتجرى عملية تقويم وإصلاح لأسنانها «المعوجة». ولكنها تشاجرت مع زوجها شجارًا عنيفًا، كاد ينتهى بالطلاق، لأنه قال لها إن هذه العملية «حرام شرعًا»، كما أفتى واحد من شيوخ الفضائيات، وإنه لن يسمح لها بأن تفعل «ما حرّمه الله».
سألته: ولماذا تقويم الأسنان «حرام»، كما أفتى الشيخ الفضائى؟، قال: «لأنه يُصلّح العيوب، ويقلل القبح، وفى هذا تغيير لخلق الله تعالى».. «أقول إيه ولا إيه»، ومساحة المقال محدودة، أعصابى محدودة، ومساحة العمر محدودة.
إن بيزنس الفتاوى الدينية الفضائية، نوع ناجح جدًا، ومربح جدًا، ومريح جدًا، فى بلادنا، وتأثيره يؤتى ثماره، على مَنْ يعانون من كل أنواع «الأمية»، وليس فقط «الأمية الأبجدية». إن الأمية الأبجدية، تقريبًا ٤٠٪ من عدد الشعب المصرى. شىء فعلًا مؤسف، وقد سمعنا منذ عشرين سنة، العالم يقول إن الجاهل بلغة الكمبيوتر، فى عام ٢٠٠٠، سوف يعتبر «أميًا». فما بالنا الآن، ونحن فى عام ٢٠٢١، وعندنا أمية «أبجدية»، وليست أمية «كمبيوتر»، بهذه النسبة الكبيرة.
ولكن بيزنس الفتاوى الدينية الفضائية، له سوق رائجة، فى مجتمعاتنا، وهى ربما فى تنامٍ وازدهار، ليس فقط بين أصحاب الأمية الأبجدية المرتفعة، الذين يعانون من البطالة، أو يسكنون فى أحياء شعبية، مستواها البيئى محدود. ولكن بين أصحاب «الأمية الثقافية»، و«الأمية الحضارية»، المتعلمين تعليمًا متميزًا، ويعملون فى مناصب رفيعة، وحالتهم الاقتصادية متيسرة، أو عالية. الدليل على كلامى، زوج إحدى معارفى، الذى يجيد ثلاث لغات أجنبية، وحاصل على الدكتوراه من الخارج، وله عمل استشارى مرموق.
بل إننى فى بعض الأحيان، أقابل امرأة لا تقرأ ولا تكتب، لكنها «فاهمة»، و«بتفكر بعقلها الفطرى»، أفضل ألف مرة، من خريجات الجامعة، أو أتعامل مع رجل «لا يفك الخط»، لكنه بالمنطق العادل البسيط، «يفك الكذب والتناقض والتضليل».
ولنرجع الى فتوى الشيخ الفضائية، التى كادت «تخرب البيوت» العمرانة. هو يقول إن «تقويم الأسنان» «حرام»، لأنه يُغيّر خلق الله.
أولًا، نحن فى دولة مدنية، اختارتها مصر، لتكون طريقًا لها. وهذه الدولة المدنية «لا يحكم فيها الدين ولا يتحكم» بأى شكل وبأى درجة، فى أى موقع من مواقع المجتمع.
وهى دولة لغة الصواب والخطأ، والمنطق السليم، والعقل الراشد، والطب الصحيح، والعلم الحديث، ومصلحة البشر، وسعادة وراحة وحرية الناس، والاستفادة من التاريخ، وتقليل معاناة وآلام البشرية. ولا نسمع لغة دينية، لغة الحرام والحلال، والمنهى عنه، والمنكر، والمغضوب عليه، ثواب الجنة، وعقاب النار، كافر أو كافرة، مرتد عن الدين، أو مرتدة عن الدين، قضايا حسبة، ازدراء أديان، وإنكار المعلوم من الدين بالضرورة، ورفع كرباج الإرهاب الدينى، على مَنْ له رؤية دينية مختلفة.
ثانيًا، نناقش منطق الفتوى نفسه. لو توقفنا عن إصلاح العيوب، وتقليل القبح، وعدم السعى إلى الجمال، لأن هذا يُغيّر من خلق الله، فلن ننجز شيئًا فى أى مجال، ولما تمتعت البشرية بإنجازات عظيمة، فى الطب، والعلم، على مدى عصورها.
لماذا يفعل شيوخ الفضائيات هذا؟!. لماذا يريدون أن يصبحوا «دولة داخل الدولة»؟!. لماذا يُحرّمون تقليل القبح، والسعى إلى الجمال، إن الله جميل، يحب كل جمال. ولمصلحة مَنْ، نشعر المواطنات والمواطنين بالخوف، وتأنيب الضمير، واللخبطة، والفوضى، والحيرة، والتشكك فى إيمانهم وتدينهم وإدراكهم السليم، فى كل خطوة فى حياتهم؟. حتى فى تصليح أسنانهم؟. ما كل واحد حر فى أسنانه، وحياته، طالما لم يضر أحدًا.
يعاملوننا على أننا «بشر بلهاء ينقصنا الفهم والعقل والرشادة والحس السليم». إلى متى هذا التسلط والوصاية على العقول؟!. إلى متى نخنق حرية الناس، باسم الدين؟. بمنطق هذه الفتوى، يصبح وليام مورتون «٩ أغسطس ١٨١٩ – ١٥ يوليو ١٨٨٦»، الأمريكى، مخترع ومكتشف التخدير عن طريق التنفس، «مغضوبًا عليه»، لأن كل شىء «ابتلاء» من الله، والألم فيه حكمة غامضة، لا يعلمها إلا الله، وتخفيف معاناة ألم المرض، يؤخر لقاء الإنسان بربه.
مورتون كان طبيب أسنان، بالمناسبة، مات فى ريعان شبابه، فقيرًا من كثرة إنفاقه على تجاربه العلمية لإفادة البشرية، بينما شيوخ الفضائيات فى منتهى الثراء. مفارقة تشعر الإنسان بالأسى، والمرارة. بالقرب من مقبرته فى بوسطن، أُقيم له تمثال يقول بعد اسمه وإنجازه: «كانت الجراحة قبله عذابًا، وبعده أصبح العلم قادرًا على التحكم فى الألم والقضاء عليه».
أفنى وليام مورتون، حياته القصيرة، ٤٩ عامًا، ليس بقصد أن يُكفّر الناس فى عيشتهم، ولكن ليحررهم من الألم. لم يهتم أبدًا، كيف يسيطر على حياة الناس، ولكن كيف يسيطر على ألم الناس. لو كنتم تريدون أن يحب الناس، أديانهم، ويفتخرون بالانتماء لها، فاتركوهم يشعرون، بأنها تؤدى بهم إلى المزيد من الحرية، والسعادة، والجمال.