عبدالرحمن بدوى
إنه جيلٌ تربى على عشق الحضارة الغربية، لكن الحضارة الغربية بالنسبة له تعنى أوروبا، حتى عندما أصبحت أوروبا هى القارة العجوز، وغدت أمريكا هى فردوس الأحلام، لم يتخلّ هذا الجيل عن قناعاته، رأينا ذلك مع «جلال أمين» أستاذ الاقتصاد، وكذلك مع «عبدالوهاب المسيرى» أستاذ الأدب الإنجليزى، ولا يختلف الأمر كثيرًا مع أستاذ الفلسفة الشهير «عبدالرحمن بدوى».
يُعد «بدوى» واحدًا من أهم أساتذة الفلسفة، ليس فى مصر فقط، بل فى العالم العربى؛ حيث لعب أدوارًا مهمة فى هذا الشأن فى العديد من الجامعات العربية، كما يُعد «بدوى» أحد أنبغ تلامذة «طه حسين»، وتتفق أو تختلف مع «بدوى»- خاصةً مع شخصيته الحادة ومزاجه المتقلب- لكن لا يمكنك إلا القبول بدوره ومكانته فى تطور الفكر العربى المعاصر.
وعندما أصدر «بدوى» مذكراته، كان رجع صداها مثيرًا، واستمرت عواصف هذه المذكرات لفترةٍ طويلة، لكن ما يهمنا هنا فى هذه المذكرات هو رؤيته لأمريكا، هذه الرؤية التى نجدها فى الفصل المعنون بـ«رحلة إلى الولايات المتحدة الأمريكية»، ومن العنوان يتضح التعامل الجاف والرسمى لبدوى معها، إذ لم يختر الاسم المحبب والعلم «أمريكا» الذى يستدعى الحلم الأمريكى ببريقه، بل استخدم «الولايات المتحدة الأمريكية» وكأنه يحدثنا عن كيان سياسى متنافر ومختلف تكون من اتحاد كيانات سياسية وثقافية متباينة، وأطلق عليه «الولايات المتحدة الأمريكية».
كانت زيارة «بدوى» لأمريكا فى عام ١٩٧١، فى ظل حالة العداء القومى العربى لأمريكا بعد حرب ٦٧، ومن البداية يشير «بدوى» إلى تأثير الدين على مجمل الحياة فى أمريكا، وآثار ذلك فى الجامعات، فى لفتة مهمة ومقارنة مع معشوقته فرنسا العلمانية، حيث الجامعات دينها العلم.
ويشير «بدوى» إلى تأثير اللوبى الصهيونى فى أمريكا، حيث رأى مظاهرة ضخمة فى شوارع نيويورك احتفالًا بذكرى تأسيس دولة إسرائيل، ويرصد لنا «بدوى» انطباعاته عن ذلك، قائلًا:
«لم يعد عندى شك بعد أن شاهدت ما شاهدت فى أن اليهود يسيطرون على نيويورك سيطرة كاسحة تامة، ومن وراء نيويورك يسيطرون على الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية فى الولايات المتحدة بأسرها».
ويصف «بدوى» نيويورك أثناء إقامته فيها بأنها: «مدينة المتناقضات الصارخة، الثراء الفاحش والفقر المدقع»، وفى نهاية الرحلة يصل «بدوى» إلى قناعة فكرية، هى فى الحقيقة خير تعبير عن قناعات جيله تجاه أمريكا: «وقد رددت فى نفسى هذا القسم نفسه وأنا فى نيويورك، وهو ألا أعود إليها ولا إلى أى مدينة أخرى فى الولايات المتحدة الأمريكية إلا إذا اضطرتنى إلى ذلك عوامل قاهرة».
ويحِن «بدوى» إلى قارته العجوز، ومعشوقته فرنسا حتى وهو فى أمريكا، إذ يحن إلى المقاهى الأوروبية: «زاد نفورى من نيويورك عدم وجود المقاهى على النحو المعروف فى فرنسا وألمانيا وإيطاليا وغيرها... كل ما هو موجود فى نيويورك كافتيريات لتناول وجبات خفيفة أو بعض المشروبات، وعليك أن تغادر المكان فور انتهائك من الطعام».
إنه جيل لم ينبهر بأمريكا، ولا بالحلم الأمريكى.