أمريكا عند المفكرين المصريين.. المسيرى
يُشاع بشكل عام انبهار المفكرين المصريين ببريق الحلم الأمريكى، لكنها فى الحقيقة مقولة شائعة لا تستند إلى أساس ثابت من الحقيقة، ونجد ما يؤكد ما ذهبنا إليه عند الكثير من هؤلاء المفكرين، لا سيما ذوو الثقافة الأنجلو فرنسية، الذين رغم إجادتهم اللغة لم ينبهروا أو ينصهروا مع الحلم الأمريكى.
نجد ذلك عند «جلال أمين» أستاذ الاقتصاد وخريج جامعات إنجلترا، والأستاذ بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، لكنه فى الوقت نفسه لم ينس أنه فى الأصل خريج جامعة القاهرة، وابن «أحمد أمين» أستاذ الإسلاميات، وهو نفسه «جلال أمين» المفكر القومى العروبى.
ونجد الموقف نفسه عند «عبدالوهاب المسيرى»، ابن دمنهور محافظة البحيرة، الذى يتخصص فى الأدب الإنجليزى، لكن ميراثه الحضارى العربى سيقيه من السقوط تحت وطأة الحلم الأمريكى.
كان المسيرى يتمنى أن تأتى بعثته الدراسية فى إنجلترا- القارة الأوروبية التى يعرفها جيدًا المفكرون المصريون منذ رفاعة الطهطاوى- إلا أن بعثته أتت إلى أمريكا، ليرحل المسيرى أولًا إلى نيويورك، وهناك يرصد لنا المسيرى حالة نيويورك فى الستينيات، واضطراب حالة الأمن، وغلاء المعيشة، ورغم استمتاع المسيرى بالمتاحف ودور السينما والمسرح، فإنه يفضل الخروج من هذه المدينة الغريبة المعولمة.
ويرصد لنا المسيرى، بعيون ناقدة، حالة الجامعات الأمريكية آنذاك، والصراع بين أنصار القديم وأنصار الحديث «أولاد هارفارد»، ومعاناة المسيرى الباحث عن الجديد، وليس مجرد مُعدِّ رسالة دكتوراه على نمط القوالب القديمة.
يشرح المسيرى، فى مذكراته الشخصية، كيف كانت بعثته فى أمريكا «مواجهة فكرية» كما أطلق هو عليها، ويرصد المسيرى مظاهر الرأسمالية المتوحشة آنذاك، وسيطرة الآلة الحزبية على الحياة الأمريكية من خلال الحزبين الكبيرين: الديمقراطى والجمهورى، وكيف أن الخروج عنهما شبه محال.. من هنا يُحدثنا المسيرى عن اليسار الأمريكى واشتراكه فى تأسيس المنتدى الاشتراكى فى أمريكا بلد الرأسمالية.
ومن الأمور المهمة التى استرعت انتباه المسيرى أثناء بعثته فى أمريكا الموقف من حرب فيتنام، هذه الحرب الإمبريالية التى شنتها أمريكا على شعب فيتنام. يرصد المسيرى مظاهر غضب الشباب الأمريكى ومعارضته هذه الحرب، وما تعرض له معارضو الحرب من معاناة واضطهاد.. ولعلنا نتذكر الملاكم الشهير «محمد على كلاى»، الذى واجه الاضطهاد آنذاك مرتين: مرة لاعتناقه الإسلام، والأخرى لرفضه التجنيد فى حرب فيتنام، هذا فضلًا عن لونه الأسود واضطهاد الملونين فى أمريكا آنذاك.
لم ينبهر المسيرى بالحلم الأمريكى، وفضل عليه أوروبا، القارة العجوز، لذلك ما أن ينتهى من مناقشة الدكتوراه حتى يعود إلى مصر، ولكن عن طريق أوروبا، حيث يقضى عدة أشهر فى أوروبا «القارة العجوز» سياسيًا، «المخضرمة» حضاريًا، ومن أوروبا يشترى سيارة ألمانية ليعود بها إلى مصر غير منبهر بالحلم الأمريكى.