الاعتذار.. مواجهة الماضى الاستعمارى بشجاعة
كثيرًا ما يصدر كتاب مهم ولا يحظى للأسف بالاهتمام والتفاعل الواجب، سيطر علىّ هذا الخاطر وأنا ألتهم فصول هذا الكتاب المهم، الذى صدرت ترجمته عن المركز القومى للترجمة فى مصر، والذى يكفى عنوانه ليشدنا إلى متاهات ومرارة الحاضر: «زمن الاعتذار، مواجهة الماضى الاستعمارى بشجاعة»!! وهو كتاب جماعى اشترك فى تأليفه عدة باحثين، كما ترجمه أيضًا عدة مترجمين.
رجعت إلى هذا الكتاب إثر المواجهات العنيفة التى شهدتها أمريكا هذا العام من جراء اعتداء الشرطة على أحد الأمريكييين من أصول إفريقية، ما أدى إلى تصاعد حركة «حياة السود مهمة»، بل وانتقلت أصداء هذه الحركة سريعًا إلى فرنسا. أعادت هذه الحركة إلى الأذهان من جديد الماضى الاستعمارى للرجل الأبيض، وتجارة العبيد بكل ما حملته من مآسٍ إنسانية، ومن الغريب أن يعود شبح هذا التاريخ البغيض من جديد بعد انتخاب أول رئيس ملون لأمريكا، وهو «باراك أوباما»! وربما يكون صعود اليمين الراديكالى فى جميع أنحاء العالم هو السبب وراء هذه الحالة.
يعالج الكتاب فى الحقيقة العديد من الموضوعات المهمة المرتبطة بـ«الاعتذار» سواء على المستوى التاريخى، أو من منظور القانون الدولى، أو حتى التحليل عبر الثقافات، كما يتناول حالات متعددة تاريخيًا وجغرافيًا، وينتقل بنا أيضًا بين «الاعتذار» عن الماضى وتجاوزات الحاضر.
ومن أهم المقولات الافتتاحية لفهم أهمية إعلاء ثقافة الاعتذار، مقولة «موهاوك»: «إنه من الصعب رؤية المستقبل بعينين دامعتين، فالتركيز الشديد على الماضى يحول دون إصلاح المستقبل.. لذلك من السهل على السياسيين وضع حد لهذه الآلام عبر تبنى منهج الاعتذار».
وعلى هذا يحتوى الكتاب على العديد من الدراسات المهمة، يأتى على رأسها «الاعتذار» عن الرق سواء على المستوى المحلى، أو على المستوى الدولى.
ومن الأمثلة المهمة عن اعتذار الدولة للأقليات، حالة كندا فى الحرب العالمية الثانية عندما تم اعتقال ذوى الأصول اليابانية نتيجة دخول اليابان الحرب ضد الحلفاء.
كما طرح الكتاب نقطة أخرى لا تزال تثير الحساسية فى التاريخ والسياسة فى شرق آسيا، وهى: هل تعتذر اليابان عن ماضيها الاستعمارى فى كوريا والصين؟ وتبعات هذا الأمر على السياسة والكتب المدرسية فى الوقت الحاضر.
كما يشير الكتاب إلى تجربة مهمة ورائدة، وهى تجربة الفاتيكان وتغير سياسته وخطه الفكرى فى زمن البابا «يوحنا الثانى» بصدور «اعتذارات الفاتيكان»، بدءًا من الأخطاء التى ارتُكِبت منذ قرون مضت ضد حرية البحث العلمى مثل حالة «جاليليو»، وصولًا إلى الأخطاء المعاصرة التى قسمت الكنيسة أو قسمت المجتمع.
ويشير الكتاب إلى أن ثقافة الاعتذار لا تقتصر على أحداث الماضى فقط، وإنما تمتد لتشمل الحاضر أيضًا، وهنا يضرب الكتاب المثل على الاعتذار الذى صدر فى أعقاب اكتشاف الانتهاكات التى قام بها بعض أفراد الجيش الأمريكى فى سجن أبوغريب فى العراق، إبان الاحتلال الأمريكى.
وأخيرًا يشير الكتاب إلى أن ثقافة الاعتذار لا تقتصر على الدول فقط، وإنما تمتد لتشمل المستوى الفردى أو مستوى الموظف المسئول، وخير مثال على ذلك حالة «ريتشارد كلارك» المسئول الأمريكى عن مكافحة الإرهاب بعد وقوع أحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١، إذ تحمل المسئولية واعتذر للشعب الأمريكى قائلًا:
«لقد خذلتك حكومتك وخذلك من تعهدوا بحمايتك.. ومن أجل ذلك الفشل، فإنى آمل فى تفهمك وعفوك»!!